ومما لفت نظري في الملف هو المقابلة التي تضمنها مع مدير «مركز دراسات النموذج الصيني»، «تشانغ وي وي»، والذي حاول أن يفسر لنا حقيقة النهوض الصيني، وطبيعة الازدهار الاقتصادي الذي حققته الصين رغم الظروف القاسية التي كانت تعيشها. فقد هزمت الصين في عام 1840 وعانت من الاحتلال بعد حرب الأفيون طوال قرن كامل، ثم عانت من سلبيات الثورة التي استمرت 70 عاماً.. لكنها لم تستسلم لهذه الظروف التي كان يمكن أن تقف عائقاً أمام نهوضها، خاصة الشعور بالدونية أمام الثقافة الغربية، بل صممت على بذل الجهود لاستعادة روحها الحضارية وعلى أن يكون لها نموذجها الخاص.. وهذا ما حدث بالفعل، حيث أصبحت الصين اليوم قوة عالمية عظمى فاقت توقعات القادة الصينيين أنفسهم.فقد استعادت الصين روحها الحضارية في فترة زمنية قياسية من عمر الحضارات، وهي 35 عاماً فقط، أي منذ بداية الإصلاح فيها عام 1979، وهي الآن أكبر قوة ديموغرافية (مليار و300 مليار نسمة)، ودولة تملك السلاح النووي وعضو في النادي النووي، ولها رؤيتها السياسية الخاصة، ولا تقع في حظيرة التبعية لأي طرف.
والنموذج الصيني، حسب «تشنغ»، يمثل كتلة صينية خالصة من الفكر والنظام وأسلوب الإدارة، وقد قامت على «استخلاص الحقائق من الوقائع»، أي أنها استخلصت تطورها من النموذج الذي وجدت فيه ما يناسبها حتى أصبح نموذجها مدرسة فكرية بذاته.
هذه التحولات الصينية، حسب «لي لانكينغ»، النائب السابق لرئيس الحكومة الصينية في كتابه «توفير التعليم لـ1,3 مليار إنسان»، أسهمت في إحداثها العديد من العوامل أهمها: السياسة الرشيدة التي انتهجها الجيل الثالث للقيادة الجماعية بزعامة «جيانغ زيمين»، والتركيز المتواصل على قطاع التعليم.
لقد شكلت التجربة الصينية بإنجازها الفريد مستوى عالياً من التقدم الاقتصادي والصناعي، الذي انتشل الصين من وضع التخلف إلى الوضع الحالي الذي جعلها في مصاف الدول العظمى، موظِّفةً كل ذلك لمصلحة الشعب الصيني ولرفع مستواه المعيشي.
وتمثل التجربة الصينية أهمية كبيرة للعالم العربي، لذلك ينبغي عدم الاكتفاء بالكتابة عنها أو أخذها في إطار الانطباعات الشخصية استناداً لبعض المشاهدات، بل يتعين البحث العلمي العميق فيها حتى نكون قادرين على فهم الأسس التي قام عليها ذلك النموذج والعوامل الحقيقية التي لعبت دوراً مؤثراً في صناعته؛ لأننا كعرب أمام تحدٍ حقيقي يستلزم منا فهم مثل هذه التجربة والاستفادة منها.
إن أية استراتيجية حضارية في خضم الصراع العالمي، تتطلب الانتقال نحو مرحلة شديدة الدقة، لأن النهوض بالمنطقة العربية يحتاج إلى إدارة حقيقية تستخلص من تجارب الآخرين ما يناسب واقع الحال ويتسق مع التوجهات المقررة.