بقرار سيادي ملزم لا رجعة فيه، أصدر الأب مرسوما منزليا بقانون، يقضي بمنع الأبناء من التحدث باللغة الإنجليزية مع بعضهم بعضا، وخاصة داخل المنزل.
وُوجه القرار بمقاومة شرسة في البداية، كما شهد تنفيذه المبدئي بعض الخروقات، لكن صرامة التنفيذ، أجبرت الجميع على الالتزام به في نهاية المطاف.
ذلك المشهد الصغير، تكرر في بيوت كثيرة، وهو يحكي بنبرة عالية جدا، صراع اللغة والهوية في مجتمعاتنا الخليجية، التي تفننت في رسم رؤاها الإستراتيجية المتوسطة والبعيدة المدى، لكنها أغفلت الإجابة عن أخطر الأسئلة.
كيف ستحقق دولنا الاندماج الحقيقي بين مكونات مجتمعاتنا الخليجية؟ كيف ستتعاطى مع إشكالات كثيرة لها أول وليس لها آخر. لا تبدأ بإشكاليات التجنيس وغزو العمالة الوافدة، ولا تنتهي بإشكاليات اللغة والثقافة والهوية؟!
غالبية دول الخليج تعاني من تضخم رهيب في أعداد العمالة الوافدة، وإذا كنا نتحدث عن ازدياد كبير في عدد سكان الخليج، بلغ 47 مليون نسمة تقريبا، فإننا نتحدث عن 23 مليون أجنبي موجودين بيننا، أي أكثر من 48% من نسبة القاطنين على هذه الدول.
الإحصاءات تتحدث أن 69.9% من العمالة الوافدة في خليجنا آسيوية، تليها عمالة عربية بنسبة 23.4%، يتفاوت توزيعهما بين دول منظومتنا الخليجية.
لن أتحدث بالطبع عن تفاقم مشكلة البطالة بين أبناء الخليج، التي بلغ متوسطها 5.7%، ولن أتحدث عن مبالغ التحويلات المالية الهائلة من العمالة الوافدة لبلدانها الأصلية، والتي بلغت حتى العام 2006، 38 مليار دولار، 63% منها خرج من المملكة العربية السعودية.
لن أتحدث عن مشكلات أخرى، تتمثل في عدم استيعاب اختلاف الثقافات والعادات والتقاليد وازدياد الجريمة، ولكن يكفيني مصيبتنا في هويتنا المهددة، ولغتنا المستهدفة!
لعل إيراد أعداد تلك العمالة في دولنا، يشرح الكثير مما يراد قوله هنا.
تتحدث الأرقام عن أكثر من 17 مليون عامل أجنبي وافد في العام 2010، يتوزعون في دول الخليج الست، أكثر من نصفهم يتواجدون في المملكة العربية السعودية، تليها الإمارات والكويت فقطر وعمان وأخيرا البحرين.
أرقام مليونية مخيفة، وقراءة نموها خلال العشر والعشرين سنة القادمة، قد تكشف عن ثغرات كبيرة، ليس في الهوية الوطنية فحسب، ولكنها في سيادة دولنا وأمنها القومي، إذ حينها سيتحول مواطنو دول المجلس إلى أقليات في دولهم.
لكم أن تتخيلوا كيف سيستطيع الأب الذي ألزم أبناءه بالحديث بلغتهم العربية داخل المنزل، أن يقنعهم بأن لغة القرآن هي وجودنا وهويتنا، وهي من أغلى ما نملك، والابن يرى لغته وهويته مخترقة في كل مكان.
خليجنا العربي، لا يعاني فقط من أعداد ضخمة من عمالة وافدة تهدد هويته العربية والإسلامية، فالتغيرات الإقليمية ونمو الطوابير الخامسة في دولنا، أخرج من بيننا من يتجرأ لمحو وصف العربي من خليجنا.
أخجلُهم من وضع الخليج دون وصف حتى لا يزعج ولي نعمته، وأسوأهم من ما زال يدافع عن فارسية الخليج، وبكل وقاحة.
وإذا كنا نتحدث عن الأخطار المحدقة بهويتنا من سياسات غير مدروسة في التجنيس واستيراد العمالة الوافدة مثلا، فإننا لا يمكن أن ننسى بعض المظاهر التي باتت مألوفة في دولنا.
لقد تحولت المبالغات في أعياد رأس السنة مثلا، بل واحتفالات الكريسماس أيضا، إلى أجزاء من ثقافة يحاول البعض فرضها على مجتمعاتنا، وترسيخها بين أبنائنا، في تغريب فاقع، يضرب هويتنا في مقتل.
البعض في مجتمعاتنا لا يحتفل بأعيادنا الإسلامية كما يحتفل بأعياد غير المسلمين، وهذا خلل قيمي كبير ستزداد وتيرته في السنوات المقبلة.
هي منظومة متكاملة، تحمل معها هويتنا الدينية والفكرية والثقافية والقيمية. تحمل معها لغة الضاد وعادات وموروثات إسلامية وعربية أصيلة.
كل ذلك سيبقى مهددا، مادامت إستراتيجياتنا التنموية والاقتصادية توضع بعيدة عن حماية كل ما سبق.
برودكاست: لعل العقد القادم وما بعده، سيكشفان الغطاء عن مشكلات حقيقية، سيتجرع مرارتها الجميع، إلا إذا أخذ هذا الملف حيزا حقيقيا من المناقشة على أعلى المستويات، لتتخذ على إثرها قرارات مدروسة ذكية، تعالج هذا الملف على مدى العقود القادمة، إن كانت في الأعمار بقية.