أدعو إلى تحرير مصطلح «الشعب» لكي نعيد إليه هيبته وبراءته، ذلك أنه منذ ارتفعت رايات الديمقراطية فإن المستبدين مابرحوا يتحايلون عليها ويلجأون إلى مختلف الأساليب الماكرة للتمسح في الشعب وادعاء تمثيله. وربما كانت «الديمقراطيات الشعبية» التي ذاع أمرها بعد الحرب العالمية الثانية أبرز نماذج تزييف الديمقراطية وابتذالها. ذلك أن نظمها التي دارت في فلك الاتحاد السوفييتي أو سارت على دربه ليس لها من الديمقراطية سوى اسمها، ولم يكن للشعب دور يذكر في إدارتها. وقد استمر الابتذال بحيث تم اختزال الشعب في السلطة أو الطبقة الحاكمة. فحملت الجريدة الرسمية المعبرة عن الحزب الشيوعي الصيني اسم الشعب وحاكمت ثورة يوليو المصرية خصومها أمام محكمة «الشعب» التي لم يكن له علاقة بها. وادعى العقيد القذافي أنه ليس رئيس دولة في ليبيا وأن الشعب بات صاحب القرار في «الجماهيرية الشعبية»، في حين أنه كان طول الوقت صاحب الكلمة الأولى والأخيرة في طول البلاد وعرضها.
دارسو العلوم السياسية يعرفون الكثير عن ديمقراطية أثينا في العصور الغابرة التي كان المواطنون فيها يصوتون بصورة مباشرة على القرارات السياسية. ومن ثم تصبح نتيجة التصويت هي رأي الشعب. يعرفون أيضا أنه في العصر الحديث أصبحت سويسرا البلد الوحيد في العالم التي تمارس فيها الديمقراطية المباشرة حيث لم يعد يصدر قرار إلا بموافقة أغلبية الشعب عليه. وإذ عُدَّ ذلك استثناء لا نظير له، فإن المجتمعات الحديثة طورت من أسلوب الاحتكام إلى الشعب، الأمر الذي تم التحول في ظله من الديمقراطية المباشرة إلى ما يسمى بالديمقراطية التمثيلية، وإذ ظل مصطلح الشعب يعني الأفراد والأقوام الذين يعيشون في مجتمع واحد وبلد واحد، فإن رأي الشعب أصبح له شكل واحد يعبر عنه من خلال المجالس المنتخبة والأحزاب السياسية ومنظمات المجتمع المدني وغير ذلك من الكيانات المؤسسية. وكان ذلك ضروريا بعدما تزايدت أعداد البشر وتنوعت انتماءاتهم وربما اختلفت مِلَلُهم وأعراقهم، ومن ثم لم يعد الشعب كتلة واحدة لها عنوان واحد، وإنما صار كيانات عدة مختلفة العناوين وربما الخصوصيات.
إزاء ذلك أصبح مصطلح الرجوع إلى الشعب فضفاضا وهلاميا وحمال أوجه، وغدا تحريره ضروريا كي لا يساء استخدامه وابتذاله، وهو ما يبرز الحاجة إلى ضبطه بحيث يتحدد في ظله العنوان المقصود، الذي قد يكون استفتاء أو انتخابات عامة، وما لم يحدث ذلك. وحين لا تتوافر للمجتمع أي مؤسسات تمثيلية تعبر عن الشعب، فإن إطلاق المصطلح يبدو مجرد فرقعة لا معنى لها ولا مضمون يتجاوز الدوِى الذي يحدث الطنين في الفضاء العام.
ما عاد خافيا أن إرادة الشعب ظلت معرضة للتزوير طول الوقت، حدث ذلك في ظل الانتخابات الصورية التي شهدتها الديمقراطيات الشعبية، ثم صار ذلك ممكنا في المجتمعات غير الديمقراطية في ظل تطورات ثورة الاتصال وتعاظم الدور الذي باتت تقوم به فنون الدعاية في تشكيل الرأي العام. إذ بات ميسورا أن تتولى تلك الأبواق تعبئة الجماهير وتحريضها للمضي في اتجاه معين، وتتولى مؤسسات التوجيه حشد الجماهير وتأجيج مشاعرها، ثم دعوتها للانطلاق في الشوارع والميادين للإيحاء بأن تلك الحشود هي الشعب وأن حناجرها هي المعبرة عن صوت الشعب، في حين أن الأمر مرتب وملعوب من أوله إلى آخره.
إزاء كل ذلك فلا حصانة للمجتمع ولا قدرة له على تجنب تزوير إرادة الشعب أو العبث بوعيه وتوظيفه لغير الصالح العام إلا من خلال ديمقراطية حقيقية تفرز مؤسسات تمثيلية صادقة، توفر للمجتمع العافية والمنعة التي تمكنه من التصدي للتلاعب بإرادة الشعب أو انتحال تمثيله.
حين قال الرئيس عبدالفتاح السيسي في خطبة الأحد (١/١١) إنه سيشكو الإعلاميين إلى الشعب، فإنني فهمت كلامه بحسبانه تعبيرا عن غضبه حين علم أن أحد الإعلاميين انتقده. ورغم أن ملاحظته كانت لها دلالتها التي أصبحت محل تعليق واسع النطاق في وسائل الإعلام ومواقع التواصل الاجتماعي، فإنني ظللت أتساءل عن الكيفية التي يمكن أن تؤخذ بها تلك الدعوة إذا أريد لها أن تؤخذ على محمل الجد. وهو ما دفعني إلى القول بأن الشكوى إلى الشعب يمكن أن تكون رسالة ذات دلالة في خطبه، لكنها على صعيد الواقع تفتقد إلى آليات تفعيلها كما أنه ليس ثمة عنوان توجه إليه. إلا إذا تم اللجوء إلى فكرة «التفويض» التي أطلقها "الفريق أول" عبدالفتاح السيسي في ٢٦ يوليو ٢٠١٣، حين كان وزيرا للدفاع. وفي هذه الحالة فإننا ينبغي ألا ننسى أن مجتمع منتصف عام ٢٠١٣ غيره في أواخر عام ٢٠١٥ لذا لزم التنويه.