مما لا شك فيه أن تركيا تحتل مكانة كبيرة في الجغرافيا والتاريخ، ولا يمكن اعتبارها رقما عابرا في المنطقة والعالم، هذه الحقيقة يدركها الجميع إقليميا ودوليا، مما يجعل التعامل مع،الحالة التركي، مسألة في غاية التعقيد والحساسية نظرا للإرث التاريخي لتركيا التي كانت حتى قرن ماضي إمبراطورية تحكم في ٣ قارات، ودخلت حروبا مع كل القوى الأخرى دفاعا عن إمبراطوريتها وأملاكها وهويتها الثقافية والدينية،
ولعل هذه الحقائق التي تفرض نفسها تجعل من تركيا اليوم صِمَام أمان أو صاعق تفجير للحالة العالمية كلها، خاصة مع تفجر كل المحيط، في سوريا والعراق وحتى أوكرانيا،
لا شك أن تركيا محاطة بأعداء يتربصون بها شرا في سوريا والعراق إيران واليونان وانضم إليهم مؤخرا بشكل سافر روسيا، وريثة الاتحاد السوفيتي السابق، التي يحاول رئيسها بوتن استعادة طموحاتها الإمبراطورية عبر البوابة الأوكرانية التي قضم شبه جزيرة القرم منها وضمها إلى أراضيه، وقبل ذلك غزو جورجيا وفصل أبخازيا عنها، وصولا إلى درة التاج الإمبراطوري المتمثل بسوريا، وهذا ما يفسر تورط روسيا في سوريا بهذا الشكل السافر والعنيف،
هذا الطموح الروسي المدعوم من إيران ومصر السيسي والعراق بشكل علني وعدة دول عربية أخرى بشكل غير معلن يصطدم بالجدار التركي الصلب، ومن المعروف تاريخيا أن تركيا لا تثق بروسيا، وهي التي خاضت ضدها معارك عدة، ولعل إقدام تركيا على إسقاط الطائرة الروسية بعد انتهاكها للأجواء التركية يفتح ملف الصراع مجددا بينهما رغم لغة المصالحة التركية، وهذا تعكسه اللغة المتعالية والعنجهية للرئيس الروسي في كلمته السنوية أمام البرلمان الروسي أمس الخميس عندما وجه كلامه لتركيا بقوله: "لن نستعرض القوة بالسلاح ولكننا لن نكتفي بالطماطم"، مؤكداً أن الرد الروسي لن يقتصر على الإجراءات الاقتصادية. وقال: "إننا سنذكرهم مرارا بما ارتكبوه، فسيندمون كثيرا عليه مرة بعد مرة. إننا نعرف ما علينا أن نفعل"
والواضح أن بوتن بدأ يستخدم اللغة الدينية كثيرا بعد إعلان الكنيسة الروسية أن حرب الجيش الروسي في سوريا مقدسة، وكأنه يخوض صليبية جديدة، فقد قال إنه لا يعرف لماذا أقدمت أنقرة على إسقاط القاذفة الروسية، "الله ربما وحده فقط يعلم لماذا فعلوا ذلك. وعلى ما يبدو فإن الله قرر معاقبة الزمرة الحاكمة في تركيا، حارما إياها من التفكير العقلاني والمنطق".
وشدد على أن موسكو سترد، ولكن من دون هستيريا: "سننطلق في ردنا قبل كل شيء من المسؤولية التي نتحملها أمام البلاد وأمام شعبنا.. إننا لا نخطط لاستعراض الأسلحة. لكن إذا كان هناك من يعتقد أنه يمكنه بعد ارتكاب جريمة حربية غادرة وقتل عسكريين روس الإفلات من أي عقاب باستثناء حظر توريد البندورة أو فرض قيود ما في مجال البناء، فإنه مخطئ كثيرا". ولوح بوتن بورقة الوضع الداخلي في تركيا وقال "إن لروسيا أصدقاء موثوقين كثيرين في تركيا"
الرد التركي لم يتأخر وجاء على لسان الرئيس رجب طيب أردوغان الذي قال: إذا استمرت ردود الأفعال الروسية غير المتزنة فإننا سنضطر لاتخاذ عدد من الإجراءات بدورنا بحق روسيا، وفي محاضرته في جامعة قطر حذّر من انتهاك الأجواء التركية وان الجيش التركي سيقوم بما قام به إذا اخترقت أي طائرة للحدود التركية واعتبر أن الدفاع عن الحدود هو دفاع عن شرف الأمة
بين روسيا وتركيا شد أعصاب وعض أصابع وتاريخ من الصراع، وبين أردوغان وبوتن صراع عَلى إثبات الذات، وهو صراع يكسب فيه أردوغان القادر على تجييش وسط آسيا ضد بوتن ونقل الصراع إلى داخل البيت الروسي وهي الورقة الأقوى في مواجهة المغامر بوتن الذي حذره الرئيس الأمريكي باراك أوباما من أفغانستان أخرى في سوريا وهذا يعني أن بوتن يلعب لعبة الروليت الروسي أمام زعيم محترف هو رجل المعادلات الصعبة.