كنت أقرأ في أحد المواقع العلمية العربية خلافاً بين اثنين من المهتمين بالبصريات حول أول من قام بصنع العدسة، وهل هو العالم العربي ابن الهيثم أم عالم إنجليزي لا يحضرني اسمه، وعلى الرغم من لطافة أن تقرأ حواراً بين عربي وآخر يتعلق بموضوع علمي، وإن كان من الوجه التاريخي فقد اعتدنا النقاش في ثلاثة أمور لا رابع لها.. الدين والسياسة و«اللي بالي بالك»! كما اعتدنا ألا تكون حواراتنا إلا بادئة بمسبة ومنتهية ببحور من الدم، ورغم أنها موجودة في أعين البشر منذ الأزل، ولكن الشكر لمن أخرجها وجعلها أداة متنقلة ومستقلة فقد نقلت الحضارة البشرية إلى مصافات لم تكن تخطر على بال، انظر إلى جميل الصور من حول العالم التي تُنقل لك، انظر إلى التوثيق الحقيقي للتاريخ الذي أصبح يجري لحظة بلحظة، لن تكون هناك في المستقبل روايات تاريخية عدة يفسرها من يشاء كمن يرغب، فكل شيء موثق بالصورة، المجرم قتل هنا، المجرم قصف الأطفال هنا، الشخص المخلص بنى هذه المدينة، المبدع أسس هذه الحضارة، لا للتصورات والاعتقادات والجمل الفضفاضة، وسمعت رجلاً غريباً جاء في يوم مظلم وقال كذا وكذا.
على أنني أجد نفسي أقرب إلى الرأي الذي يقول بأن صانع العدسة لم يكن عربياً، بل لم يكن يحبنا على الإطلاق، لماذا ظهرت هذه العدسات وانتشرت وأصبحت تملأ الدنيا في السنوات التي تحولت فيها بلاد العرب إلى خرائب وأطلال تأكلها النيران وتتكالب عليها الأمم؟ لماذا أيتها العدسة لم تكوني هناك لتنقلي لي عصورنا الذهبية: في دمشق وبغداد والقيروان؟ لماذا تسجلين لي الآن حالتنا الممجوجة بقطع الرؤوس وهتك الأعراض والمباني المهدمة فوق الأطفال، ولم تسجلي لي لحظات دخول الملوك على العلماء ولطائف التاريخ وجمال المعمار؟ كم لقطة سجلت لي لهدم دمشق وما حولها؟ بينما لم توثقي لي لحظة من تاريخ الأمويين فيها، لم توثقي لحظات بناء المسجد الأموي، ولا صلاة الخلفاء فيه، ولا جمال الشعراء والباعة حوله؟ أين كنت حين كانت بغداد حاضرة الدنيا؟ لماذا لم تسجلي شوارعنا النظيفة وأحياءنا الآمنة ورحالتنا الذين كانوا ينتقلون من عُمان إلى الأندلس دونما خوفٍ إلا من نفاد الحبر أو القراطيس، منافسيك التقليديين.
تآمرت علينا العدسات كما تآمر علينا التاريخ والجغرافيا والسياسة، فظهرت في غير زمانها وغيرت أثوابها وأوجعتنا، ووثقت تاريخنا الذي نخجل منه لا تاريخنا الذي نفخر به.
يبقى عزاؤنا في أن صناعة العدسات تتطور، وأن لدينا جيوباً في الوطن الجريح تسير بعكس التيار، وستبقى هذه العدسات توثق بإذن الله، وستوثق انطلاقة حضارتنا مرة أخرى من هذه الجيوب الصغيرة، وستوثق عملية البناء وعودة الإخضرار إلى كل الصحارى التي أتعبتها الصراعات المجنونة والتكالب على آبار النفط، وعندها ربما أصدق بأن العرب هم أول من صنع العدسات..