سترى في حياتك أموراً غريبة، ولكنها ليست مستحيلة الحدوث،
أموراً لن تستوقفك إن مررت بها شارد الذهن، أو كانت حالة التركيز لديك دون المعدل الذي يؤهلك لدخول امتحان تحريري آخر، كأن تمر بك على سبيل المثال سيارة تدريب لتعليم القيادة بلونها الأصفر الشهير، ولكنها ليست من طراز «نيسان صني»، تنظر إلى المشهد الكلي وتشعر بأن هناك أمراً غريباً، ولكن ذكاءك لا يسعفك على اصطياده من النظرة الأولى، وحين تنتبه إليه تستغرب مرات أخرى، كيف لم أنتبه إليه من قبل؟ هل تذكر لعبة الفروق السبعة، حين تنتقل إلى الصفحة الأخيرة من المجلة وترى أن الفرق الأخير كان في ذلك التفصيل من الصورة، وتستغرب كيف أنك لم تنتبه إليه، تشعر بأن العالم كله يتآمر عليك، تكاد تقسم بأنه لم يكن هناك! هكذا هي المشاهد الغريبة التي لا ننتبه إليها.
شارد الذهن كعادتي أسير في حديقة الحي التي يبدو أنها قررت تطبيق أحد بنود اتفاقيات التوأمة الكثيرة التي تقوم بها بلدية مدينتي مع البلديات الأوروبية، فلبرهة مسروقة من الزمن قررت استعارة نافذة مناخية من إحدى الحدائق الأوروبية، ما أدخل إلى فريجنا نسائم من الجنة، لم نشعر بمثلها منذ عام مضى على أقل تقدير، وعليه يقرر جميع أهل الفريج الخروج إلى حديقة الحي التي كانت حتى قبل أسبوع مضى تستجدي زيارة مجاملة من أحدهم دون جدوى، الجميع هنا العاملون والعاطلون، الحمقى والأذكياء، ملاك العقارات في الفريج والمستأجرون لديهم، الجيران شديدو التركيز.. وأنا!
لم يكن هناك الكثير مما يمكن أن يقال، حديقة هادئة في حي هادئ في مدينة هادئة في بلد هادئ في منطقة متفجرة، وهكذا هي الحياة، مررت بالمشهد الذي لم أنتبه إليه إلا بعد ابتعادي عنه بمسافة ست قصبات، أنت لا تعرف ما هي وحدة القياس بالقصبة! لا شك في ذلك جميعكم لا تعرفون إلا «الفرسخ» لما لها من وقع سمعي بذيء، المهم أنني تنبهت بعد تلك القصبات الست إلى أنني مررت بامراة كانت تقرأ رسالة حب مكتوبة بخط اليد! وعدت أدراجي!
لا تسألني كيف عرفت أنها رسالة حب وبخط اليد، فأنت لا تسأل الصائغ كيف قرر ما هو عيار قطعة الذهب، ولا تسأل الصياد كيف عرف أنها كانت هامورة، ولن تسأل الميكانيكي كيف قرر بأن صحن الكلتش قد احترق، سؤالك ينطوي على إهانة غير مباشرة، كانت رسالة حب مكتوبة بخط اليد وكانت هي تقرأها تحت شجرة قررت أن تتعرى في حيّنا المحافظ احتجاجاً على تأخر موسم الأمطار، لا أذكر متى كانت آخر مرة رأيت فيها رسالة حب مكتوبة بخط اليد، المنظر كان سعيداً ومبكياً بامتياز، ويتماهى مع الأجواء الأوروبية التي استعرناها بناء على اتفاقيات التوأمة.
ممارسة لم تعد موجودة، استبدلنا طعمها الطبيعي، بالأحرف المعلبة الجاهزة التي لن يعرف علماء التغذية أنها سبب للسمنة العاطفية وسرطانات البُعاد إلا بعد فترة طويلة، قررت أن أشكر كاتب الرسالة الجميل، فوقفت وراء المرأة لالتقاط اسمه من التوقيع، نظرتها لي لم تكن تعني أنها تصدق بأنني كاتب أراد شكر رجلٍ كتب رسالة حب بخطه على ورق تقليدي! فهل تصدّقني أنت؟