بعد ساعات من وفاة الملك عبدالله رحمه الله، بات واضحاً لدى السعوديين والعالم، أن ما كان يطرحه مغردون مجهولون من سيناريوهات كارثية سيتعرض لها النظام لم تكن صحيحة، التحليلات والأمنيات التي كانت تقدم على شكل معلومات مؤكدة عن انهيار وصراع بين أركان النظام لم تحدث، لم تشرق شمس اليوم التالي إلا وسلمان بن عبدالعزيز ملكا على البلاد كما هو متوقع، ومقرن بن عبدالعزيز وليا للعهد كما هو متوقع، بل إن الملك سلمان أضاف للعملية استقرارا أكبر بتعيينه الأمير محمد بن نايف وليا لولي العهد، مما يعني الاطمئنان على مسألة الحكم المقلقة لعقود مقبلة، والانتقال في ظرف ساعات لحسم واحدة من أكثر القضايا التي تشغل السعوديين، والتي كانت مسرحا للعابثين الذين يبثون رغباتهم بالانهيار، عبر الخلط العمد بين التنافس والرغبة بالصدارة، والتي تميز كل تجمع بشري من أصغر دائرة حكومية إلى أعلى المناصب، وبين التوافق على ثابت يتعلق باستقرار البلد وأمنها.
لا يفرق الناس أحيانا بين قضيتي الحُكْم والحكومة، من حقنا وواجبنا انتقاد أعمال الحكومة وتوجهاتها، والتشديد على ضرورة تحسين أدائها في كل الوزارات، لكن الحكم مسألة أخرى لا تقبل العبث والاجتهاد، وتجربتنا في العالم العربي طوال سنوات الربيع تجعلنا نشدد على مسألة الاستقرار، والذي يرتبط أساسا بالاطمئنان والتوافق على موضوع الحكم في البلاد، وما قام به الملك سلمان، وفي وقت سريع، هو تجاوز هذا الأمر والتركيز على ما بعده من قضايا، فاختيار الأمير محمد بن نايف وليا لولي العهد محل قبول واسع، عرف الرجل بجديته واجتهاده وانضباطه في إدارة ملف الأمن، وهو الاسم الأبرز في الجيل الثالث من المؤهلين لحكم البلاد في المستقبل، وهذا لا يعني مرة أخرى، تجاوز الأخطاء والإشكاليات حول أداء وزارة الداخلية كجهاز أمني، والملف المرتبط بمعتقلي الرأي، إنما الحديث هنا عن الحكم وعن المؤهلين لشغل مواقعه الرئيسية.
التقيت الملك سلمان بن عبدالعزيز مرتين، الأولى في منزله بداية عملي في الجزيرة عام 2004، والثانية في عام 2007، ولا أستطيع تجاوز الإشارة لكرمه ونبله والود الكبير الذي تلقاه منه، إنه يعرف الناس جيدا، وأعني معرفة كل ما يتعلق بأسرهم وقبائلهم ومناطقهم والأحداث والطباع التي يشتهرون بها، وهو أمر لا يكتسبه الإنسان إلا بالقراءة والبحث والمخالطة الجيدة، ولا أقصد الحد المتعارف عليه عند الناس، بل درجة استثنائية وأكثر تميزا من المعتاد، وهذا أمر له معنى كبير لدينا أبناء شبه الجزيرة العربية، وله وقع على من يدخلون على الملك وفي قلبهم شيء من هيبته ومكانته، وفي ظروفهم وأعمالهم أشياء مما قد لا تعجب الملك!
أنتقل لمسألة أكثر أهمية في شخصيته وطريقة تفكيره، لا أعتقد أن الملك كان معجبا حينها بقناة الجزيرة، ولا طريقة عملها وسقف الحرية الذي تتمتع به، وهو الآن يقابل أحد أبناء بلده من الذين يعملون بها، بل ويدافعون عن وجودها وضرورة إتاحة الفرصة لها للتغطية داخل المملكة، أكثر ما يمكن أن أسجله هنا عن ذلك اللقاء هو الذهنية المنفتحة والقدرة على خوض نقاش شفاف وجدي وبعقلية منفتحة، وكان لدى الملك خيارات أخرى تجنبه خوض نقاش مطول مع أحد الصحافيين الشباب المندفعين في خياراتهم، استمر اللقاء لمدة ساعة تقريبا، وبعيدا عن التفاصيل انتهى إلى اقتناعه بالسماح لتغطيتنا موسم حج ذلك العام، وإلى عبارته التي لن أنساها أبدا: قد نختلف، لكننا أبناء هذا الوطن ونعمل على مصلحته بكل الطرق.
بعد خروجي اتصلت بالصديق النبيل صالح الشيحي، وأخبرته بما انتهى إليه اللقاء مع الملك، وكان أميرا لمنطقة الرياض حينها، وأن من قابلت لم يكن مسؤولا فقط، بل رجلا على دراية كبيرة بعمل الإعلام وعالمه، ومثقفا لا تود أن ينتهي النقاش معه، وأنه ليس من الصنف الذي يستثمر مكانته لفرض رأيه، وهو قادر على ذلك، إنما يستثمر مكانته الاستثمار الصحيح، في إقناعك إن كنت مخطئ، أو الاقتناع برأيك إن كنتَ على حق.
اليوم، ينتقل سلمان، أحدة أعمدة النظام السعودي وركائزه إلى موقع الرجل الأول في البلد، وليس في هذا مفاجآت كثيرة، كان سلمان ملكا طوال مسيرته الطويلة، من عهد المؤسس إلى آخر عهد، لكن هذا الأمر، يأخذنا نحن إلى منطقة التمني أكثر فأكثر، وسأطرح غدا، ما أتمناه، وما أظن، أنه يمثل أمنيات كثير من السعوديين من الملك سلمان، وكما لم يخب أملنا فيه مرات ومرات، فلن يخيب أبداً بإذن الله.