أبدأ من حيث انتهى إليه صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد في ختام القمة الحكومية حين هنأ الحضور كافة بهذه القمة الاستثنائية، التي أطلق عليها قمة الابتكار .. قمة الازدهار.. قمة لا تعرف الانكسار.
والحق أن سموه بهذه الألقاب والملامح الثلاثة لخص المحاور الرئيسة التي دارت فعاليات هذه القمة حولها ودقت عليها دقاً منتظماً، ولا شك أن ذلك يأتي منسجماً مع تخصيص دولة الإمارات عام 2015 عاماً للابتكار، يقدم فيها أبناء الإمارات أفضل ما لديهم، متنافسين في مضمار الإبداع، شبابا وشيبة، في سبيل تجويد حياة أبناء الوطن والمقيمين على أرضه.
ولاشك أن حضور شباب الجامعات وتكريم المبدعين منهم، في ختام فعاليات القمة، ورعاية أفكارهم وابتكاراتهم، وتحويلها إلى واقع عملي، لهو دافع كبير لاستمرارهم في إخراج المزيد من جعبة تميزهم، وهي رسالة تتخطى حدود دولة الإمارات إلى الشقيق والصديق.
ذلك أن أشد ما عانى منه الشباب في عالمنا العربي هو إهمال أفكارهم أو الإنصات إليهم حتى قتل لديهم الطموح وتعطلت أدمغتهم عن التفكير بفعل ظروف ضاغطة حالت دون تحقيق ذواتهم.
وهو ما أكد عليه سموه حين قال إن المشاركة الواسعة في الجائزة تؤشر إلى أن الحكومات بدأت تغير نظرتها إلى الطريقة التي تقدم بها خدماتها، وأن الجائزة التي أطلقناها بدأت في تحقيق أهدافها، في تسهيل حياة البشر، واختصار أوقاتهم، وخلق بيئة أفضل لهم، وهو ما يؤكد على الدور الإيجابي الذي تقوم بها الإمارات في محيطها العربي والدولي باعتبارها واحة للرفاه الإنساني.
إن تفرد هذه القمة واستثنائيتها عن طبيعة العمل الحكومي المعتاد، في أنها تمثل طاقة دافعة لمرحلة قادمة يتم الكشف فيها عن التحديات المقبلة وكيف يتم الاستعداد لها.
ومن يجيد قراءة لغة الجسد حين أكد صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد، بكلمات واضحة لا لبس فيها، وبنبرة تحمل الثقة، قائلاً: «إننا لا نخشى التحديات لكننا نبحث عنها لنهزمها»، تبين وكأن التحديات فريسة يسعد بها محترفو مواجهتها، ولا يشعرون بكامل السعادة حين تكون طبيعة الأعمال خالية منها باعتبارها تخرج مخزون الطاقة الإيجابي لدى الفرد، الذي تحدث عنه سموه، تلك الطاقة التي بثها في الحضور لمواجهة غد أكثر تحدياً.
وهذا الذي أكد عليه سمو الشيخ محمد بن زايد في كلمة ضافية واضحة جابت بعقولنا الماضي وما كابده الجيل المؤسس حتى صرنا إلى ما نحن إليه من نموذج في التنمية يتطلع إليه العالم وكل راغب في تلمس طرق الرخاء والسعادة لشعبه.
غير أنه وهو يستعرض مجالات الريادة لدولة الإمارات وتجاربها الناجحة في مختلف المجالات مشيراً إلى مطار دبي الذي بات الأول عالمياً متخطياً أسماء كبيرة في بلدان عريقة، وهو ما يؤكد مصادر قوة الاقتصاد الإماراتي وتنوع مصادره.
إن كافة النظريات المتعلقة بالتنمية تؤكد على أن التنمية الاقتصادية أو الاجتماعية وكفاءة مخرجات التعليم صنوان لا يفترقان، ولا يمكن تحقيق تنمية حقيقية أو الاستفادة من نتائجها دون أن يصحبها مستوى تعليمي قادر على الحفاظ على مكتسباتها، فضلاً عن أن النظريات أثبتت أن العائد المادي من الاستثمار في مجال التعليم يفوق الاستثمار في المجالات الاقتصادية بثلاثة أضعاف.
ولا شك أن ما حدث في العالم بعد الحرب العالمية الثانية، والتحول من تعظيم رأس المال المادي، باعتباره المحرك للتنمية كما كان يرى «كينز»، إلى تعظيم رأس المال البشري، ولا شك أن تجربة بناء اقتصاديات ألمانيا واليابان بعد الحرب قامت على مبدأ قيمة الاستثمار في الإنسان باعتباره محرك التنمية وصانعها والهدف منها، ومن هنا كان البحث الدائم عن النظام التعليمي الأفضل الذي يخرج جيلاً قادراً على بناء الدولة.
إن القيمة الحقيقة للتعليم هي تربية جيل قادر على الإحاطة بمعطيات بيئته واستخلاص ما فيها من أسباب قوتهم وتجويد حياتهم عبر تعظيم مواردها وإن كانت شحيحة، وإلا فما هي الموارد الطبيعية التي تتفرد بها اليابان! غير الإنسان الذي جعل من اليابان هذه المعجزة الاقتصادية.
إن ما أشار إليه بوضوح سمو الشيخ محمد بن زايد هو أهمية التعليم في تكوين الإنسان القادر على صناعة التنمية وتوطينها وليس شراء مظاهرها، ضاربا المثل بالتجربة المتميزة لمصنع «ستراتا» لإنتاج قطع غيار الطائرات لشركتي بوينج وإيرباص والذي تشغل المرأة الإماراتية 83% من قوته العاملة.
وكذلك قدرة أبناء الإمارات على تشغيل وإدارة كبريات الشركات العالمية في قطاعات الموانئ والنقل، وهو ما يؤكد أن التعليم وإذا كان واجباً على الدولة وحقاً من حقوق أبنائها إلا أنه استثمار على المدى البعيد، وفي تقديري يخطئ من يظن أنه خدمة من الخدمات الاجتماعية، وبخاصة أنه من أهم مؤشرات التنمية سواء من حيث الكم والجودة.
والحق أن العائد من الاستثمار في التعليم ليس هو العائد المادي فحسب بل هناك عوائد أخرى متمثلة في الارتقاء بالفكر والمعرفة، إضافة إلى تهذيب النفس وتقويم السلوك، والقضاء على كافة معوقات التنمية، وانفتاح الفكر، وقبول الآخر، والقدرة على الحوار باستخدام قوة الفكرة وليس فكرة القوة، وهو ما ينعكس بدوره على انخفاض معدلات الجريمة.
والحفاظ على أمن المجتمع، وكل ما من شأنه تقويض السلم المجتمعي أو تكدير الأمن العام، ويدعم المواطنة الإيجابية القائمة على أهمية إدراك الفرد لدوره تجاه أسرته ووطنه دون الاكتفاء بالتغني بالولاء للوطن دون القيام بفعل إيجابي.
إن استثنائية القمة الحكومية في نسختها الجديدة جاءت من أنها كانت قمة كاشفة لحجم التحديات التي نواجهها والسبيل إلى تجاوزها، وآليات المواجهة التي سيكون الإنسان في موقع القلب منها.