قد يبدو مؤلماً بعد الأحداث الأخيرة في العالم العربي، وحالة «الانفلات الإعلامي» الذي تجاوز كل قيم المهنة، واستباح أعراض الناس وحرماتهم في حالات كثيرة. كما أن دخول المال الخاص في البث التلفزيوني قد كسر احتكار الدول للإعلام، فكانت الفائدة التي خرج بها المشاهد هي كسر الاحتكار وتنامي المنافسة من أجل الفوز برضا الجمهور. لقد ظلت المعلومة «مُحتكرة» في قنوات البث الرسمي، وظلت تقليدية مفْرطةً في الرسمية، وغاب عنها الإبداع الذي هو لب البث التلفزيوني! لقد حاولت دول عربية مجاراة البث التجاري، وقامت بصرف الملايين من أجل الخروج بـ«ثيمة» جديدة مبهرة، لكنها لم تستطع، وأصبح الناس «يحنوّن» للشكل القديم الذي أُريد له التطوير.
نحن نعتقد أن البث التلفزيوني مادة إبداعية في المقام الأول، إذ مهما وفرنا من التقنيات والأجهزة والديكورات، لن نستطيع خلق المادة الإبداعية بغياب المبدعين، خاصة إذا لم يتمكن المعدون والمقدمون من الرؤية التي يستند إليها البث. لذلك، ظهرت تجارب هشة في السماء العربية لقنوات لا تعرف موطنها إلا من خلال نشرة الأخبار الرسمية. كما أن هنالك محطات عربية لا ترى أبعد من مواطنيها، وهي تبث عبر الأقمار الصناعية لشعوب تحتاج إلى «ترجمان» كي تفك مصطلحات اللهجة المحلية.
وفي القنوات الخاصة نلاحظ ميلا واضحاً لشراء البرامج والماركات دونما البحث عن قوالب عربية خاصة، فظهرت برامج المسابقات الغنائية أو المهارية بأسماء أجنبية لم تقترب من المزاج العربي، وإن اعتمدت على لجان تحكيم من النجوم الذين يحبهم الجمهور.
إن نجاح القنوات الرياضية يعود إلى قيام بعضها بشراء حقوق الدوريات العالمية، واحتكارها بث مباريات تلك الدوريات، ناهيك عن أن أكثر من 60% من سكان الوطن العربي هم من الشباب، حيث يشترون بطاقات المشاهدة بشكل واضح، كما أن بعض هذه القنوات يبث برامج حوارية تناسب توجهات الشباب، ويشارك فيها نجوم من الرياضيين السابقين!
وبالنسبة لبعض القنوات الخاصة، والواقعة في «برزخ» التحول من الإعلام المتشدد والسلطوي إلى الإعلام الديمقراطي، فإنها مارست بعض الأدوار المستفزة بالتعرض لبعض النظم العربية، وبلغة لا تصلح للإعلام، دونما التفات إلى قيم الخصوصية والكرامة التي ينبغي أخذها بعين الاعتبار.
ولعل أغرب ما جاء في التقرير المذكور هو ازدياد عدد الفضائيات الدينية. وللأسف، فإن تلك الزيادة لم تكن في صالح المشاهد، لأن معظم تلك الفضائيات يمارس دعاية سياسية ومذهبية تضر بالإسلام، وتحتقر من هم ليسوا على نفس «الملة». كما تخلى العديد من «الدعاة» عن وقار الوعظ وسمو التوجيه، إلى تفسيرات وفتاوى خارجة عن سماحة الدين، بصورة تنم عن أحقاد مذهبية غير سوية. ولا نعتقد أن مثل هذه القنوات تؤتي «أُكُلاً» لذيذاً في ظل الانفتاح الإعلامي.
وكما يوجد على الأرض هدرٌ للموارد، على الأسلحة وغيرها، فإنه يوجد هدرٌ في السماء للموارد على البرامج الهشة والمواد التلفزيونية التي –إن وُفق بعضها في الترفيه وابتعد عن السياسة– يفسد الذوق ويبث الفوضى وعدم اليقين بين الجمهور العربي. نعم هنالك قنوات هادرة، لكن «ماءَها» شحيح!