الطريقة التي تم بها ترتيب حضور رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتانياهو إلى واشنطن، والدعوة غير الخاضعة لحسابات العلاقات الخارجية التي وُجّهت إليه لإلقاء «خطاب الممانعة» ذائع الصيت قبل أيام في مبنى «الكابيتول» تتجاوزان بكثير مفهوم العلاقة بين دولتين مستقلتين، وتضعان الأمر برمته في خانة تصفية الحسابات الداخلية المتورطة فيها أطراف عدة.
جاء نتانياهو إلى الكونغرس وكأنه حاكم لإحدى الولايات الأميركية، أو ممثل لواحدة من القوى الوطنية المحلية، ليعبر للنواب والشيوخ الأميركيين عن مخاوف الولاية أو الكتلة التي جاء منها، ويتحدث بكل أريحية وكأنه مواطن أميركي لا يستلزم وجوده في الجهاز التشريعي الأكبر في البلاد، موافقة وترتيب السلطة التنفيذية التي هي وفق العلاقات الدولية الطرف الموازي له والمعني أولاً وأخيراً بدخوله إلى أميركا ونشاطاته فيها، ومن ثم خروجه منها.
جاء إسرائيلياً - أميركياً، وقفل عائداً إلى الشرق الأوسط أميركياً - إسرائيلياً. وما بين الحالين مزج همه الشخصي بهم الغالبية الجمهورية، فتبدت لنا حال جديدة من العلاقات الدولية يظهر فيها التوافق التشريعي - التنفيذي لدولتين صديقتين على حساب السلطة التنفيذية في إحداهما!
تحدث نتانياهو إلى المجموع النيابي، مستخدماً لغة لا تختلف كثيراً عن لغة السيناتور جوزيف مكارثي، لكنه زاد عليها بأن وجّهها إلى طرفين لا إلى طرف واحد كما كان يفعل مكارثي في خمسينات القرن الماضي.
أولاً وقبل كل شيء، كان نتانياهو يتحدث بلسانه إلى النواب والشيوخ الأميركيين وعيناه تسترقان النظر إلى الناخبين في إسرائيل. جاء إلى واشنطن ليرسل رسالة غير مباشرة لأهله في الشرق الأوسط عن قدرة إيران العظيمة، وسعيها المتواصل إلى محو دولة اليهود، وبالتالي على الخائفين من «المحو» أن ينتخبوا في 17 آذار (مارس) المقبل من يتحدث عن هذا المحو، ويستحضره ويحاربه في المحافل الداخلية والدولية.
نتانياهو يعرف أن ديموقراطية إسرائيل هي في النهاية «ديموقراطية أمنية»، يلعب فيها عامل الخوف دوراً بارزاً في توجيه أصوات الناخبين، ويدرك تماماً أن مزاج اليهود النفسي خاضع دائماً لحرب البقاء التي تستلزم وجود عدو دائم في الحياة اليومية الإسرائيلية، وعليه فإن أسهل الطرق دائماً لاستمالة الناخب الإسرائيلي أن يكون المرشح للقيادة مكارثياً على الدوام، وهذا ما يفسّر لنا عدم تنوع وجوه القادة في إسرائيل، وبقاء السلطة دائماً في أيدي المتشددين الذين يؤمن الشعب الإسرائيلي بقدرتهم على المواجهة العسكرية وحماية الدولة اليهودية.
إيران وقنبلة إيران وخطر إيران وكل الكلمات المرعبة التي حملها خطاب نتانياهو لا تمثل خطراً مباشراً على إسرائيل كما نعرف ويعرف نتانياهو نفسه، لكنها من مكملات الحملة الانتخابية التي لا بد من المرور عليها لإبقاء حظه قائماً في الانتخابات المقبلة.
وفي المقابل، فإن هذا «الهوس الانتخابي» لنتانياهو يصادف هوى انتخابياً ثانياً في أميركا بعد عامين، وهذا ما جعل جمهوريي الكونغرس يفتحون أذرعهم للرجل القادم من الشرق الأوسط، طمعاً في أن تؤثر رسائله المكارثية في مزاج الناخب الأميركي بعد سنتين، ليكون مستعداً لاختيار قائد جمهوري يستطيع أن يوفر الحماية اللازمة للصديق التاريخي لأميركا في الشرق الأوسط!
نتانياهو والجمهوريون يرفعون أصواتهم ضد الاتفاق النووي الأميركي - الإيراني الذي ما انفك جون كيري وزير خارجية باراك أوباما يروج له خلال الأيام القليلة الماضية. يفعلون ذلك لا من أجل الخطر الإيراني نفسه، وإنما من أجل حساباتهم الداخلية الخاصة التي تركب مطية الواقع والمعطيات.
هكذا هم، فماذا عن المتعرضين مباشرة لهذا الخطر والواقعين تحت دائرته المباشرة؟ ماذا عن دول الخليج؟ ماذا عن مصر؟ وماذا عن تركيا وباكستان؟ قبل أن تطمئن دول الخليج إلى أوراق جون كيري ورسائله في شأن الاتفاق الأخير، عليها أن تؤكد للدول الست أن حضور ممثل خليجي في الأشهر المقبلة للمفاوضات صار من الضرورة بمكان لضمان مستقبل هذه الدول في السنوات العشر المقبلة التي تمثل إطاراً زمنياً للاتفاق المزمع عقده.
إدخال دول الخليج طرفاً في المفاوضات سيوفر لها مساراً آمناً ورؤية مستقبلية واضحة، خصوصاً أن هذه الدول هي المعنية الرئيسة بالسلاح النووي الإيراني في ظل صمت تركي غير مفهوم وابتعاد مصري عن صميم المشكلة وتحفز باكستاني لبيع الحقوق النووية لمن يطلبها.