بعض المدن تكتسب شهرتها من الأساطير والحكايات التي تروجها هي ويتناقلها الناس ويسعون لها، حكايات لم تحدث فعلاً وأخرى حدثت أو اختلطت الحقيقة فيها مع الخيال، ومع مرور الوقت اختفت معالم الأمكنة واختفى أبطال الحكايات صغرت بعض المدن وكبر بعضها، تغير كل شيء ووحدها الحكايات بقيت وستبقى!
كلنا نحب الحكايات، بعضنا وكثيرون ممن نلتقيهم يسافرون بحثاً عنها في القلاع والقصور وعند أسوار المدن العتيقة، حكاية الأميرة التي بنى لها والدها جزيرة وسط مياه البوسفور ليحميها من الموت بعد أن رأى في المنام أنها ستموت في عامها الثامن عشر، وبالفعل تموت الأميرة في عامها ذاك رغم إجراءات الملك، وتتحول الجزيرة إلى أسطورة ومن ثم إلى مزار سياحي يعرف بجزيرة البنت!
لا تنقص الأساطير بل تزيد وتكبر وتكتسب حالتها القدسية مع الزمن، أما الأبطال الذين كانوا أناساً عاديين في الأزمنة التي شهدت تلك الأحداث فإنهم لاحقاً يتحولون إلى شخوص أسطوريين، يصيرون خبزاً يومياً للناس، للكتاب، والشعراء وحتى لصناع السياحة الذين يحولون الحكايات إلى رزق أصيل للمدينة كلها، تقتات عليها وتحلق بها في وجدان كل الناس وفي ذاكرة كل العالم!
نحن البشر تغرينا الحكايات وتجتذبنا وتروض نزعتنا العقلانية جداً، فنصدقها رغم لامعقوليتها، ونتمنى لو كنا نحن أبطالها، وأن الناس يتحدثون عنا بهذا الانبهار كما نتحدث نحن اليوم عن هؤلاء الأبطال، هذه الدهشة التي تنتابنا توقظ الطفل في داخلنا، تتنبه جميع حواسنا ونشعر بكثير من المتعة ونحن نستمع إلى التفاصيل، كيف هربت تلك الفتاة من منزل والدها الحاكم؟
لماذا لم يزوجها من أحبت؟ كيف أمكنها أن تصل إلى قمة القلعة وتلقي بنفسها من الأعلى؟ ألم ينتبه لها حراس القلعة؟ ألم يخبروا والدها؟ كيف استقبلت والدتها وحبيبها وصديقاتها الخبر؟ لا أحد يملك أي إجابة، لأن أسطورة برج العذراء في (باكو ) يجب أن تبقى أسطورة وكفى!
الفضول لا يصنع الأساطير بل يغذيها، المدن تصنع أساطيرها، تلفها بالحب والبطولة وكثير من اللامعقول، بينما نصر على طلب تفاصيل التفاصيل لا لشيء إلا لأننا لا نريد للحكاية أن تنتهي كفيلم عربي بائس، لا نريد أن يموت البطل ولا أن تموت الحبيبة!
في منزل جولييت في مدينة (فيرونا) تبدو الشرفة عالية جداً على عاشق في الثامنة عشرة أن يصل لحبيبته منها، يكتفي بالعزف وتكتفي هي بالأحلام، يكتبهما شكسبير مسرحية وتخلدها فيرونا مزاراً وتذكارات، وبرغم أن نهاية العاشقين كارثية إلا أن السينما والمسرح أقنعونا بها فقبلناها كما تقبلنا نهاية أخرى أكثر مأساوية!
الناس لا تحب النهايات العادية كنهايات الأفلام الرديئة، يعتقدون أن الموت العادي لا يخلد الحكاية ولا يصنع الأبطال، إنهم يريدون حكاية لا تموت، لكن أبطالها ماتوا بشكل كارثي لا يتكرر!