ليس هناك من شك في الأهمية التي يحظى بها قطاع العمل الخيري في تنمية المجتمع وحل مشكلاته لاسيما مشكلة الفقر الذي يمثل اليوم أحد مصادر المعاناة في العالم العربي وخارجه، والتاريخ الإسلامي يبين لنا أن العمل الخيري كان له دور مؤثر خلال العصور السابقة في علاج الفقر والبطالة وإغاثة المحتاجين والمساكين، كما ساعد في نشر التعليم وتشييد المدارس ودور الثقافة ونشر الدعوة الإسلامية خدمة لتنمية الفرد والمجتمع، كما لعب هذا القطاع دوراً مؤثراً على مر التاريخ في الحفاظ على هوية الأمة وتأمين وضعها داخلياً وخارجياً، وكان للأثرياء والمقتدرين الدور الأساسي في تمكين هذا القطاع من أداء دوره حيث يحكي لنا التاريخ أن بعضهم أنفق كل ما يملك لخدمة هذا الهدف، ففي غزوة «مؤتة» احتاج المسلمون إلى تجهيز الجيش فجاء أبو بكر رضي الله عنه بكل ما يملك فقال له الرسول: ما أبقيت لأهلك يا أبا بكر؟ فأجاب: أبقيت لهم الله ورسوله. وفي عام المجاعة جاءت قافلة من الشام لعثمان بن عفان رضي الله عنهم تضم ألف بعير محملة بالسمن والقمح وكل ما يحتاجه الناس، فأسرع إليها التجار ليشتروها منه وقد دار بينه وبينهم حوار طويل انتهى بأن قال لهم عثمان: إني وجدت من يعطيني أكثر منكم، وجدت الله يعطيني ربحاً على الواحد عشرة إلى سبعمائة ضعف، أشهدكم أني بعتها لله وأنها صدقة على المسلمين. وكانت عائشة رضي الله عنها كثيرة الصدقات وقد تصدقت مرة بمائة ألف درهم وليس عليها إلا ثوب خلق. وتصدق عبدالرحمن بن عوف، رضي الله عنه، الذي كان نهراً متدفقاً بالجود والعطاء، بماله كله أكثر من مرة حتى أنه كان يكتب قائمة بتوزيع ما عنده من ثياب ومتاع على إخوانه المحتاجين قبل أن ينام، ثم ينزل إلى السوق وليس له إلا ثوبه الذي يلبسه.
إن هذا الدور الكبير والمهم الذي لعبه أصحاب الثروة على مر التاريخ تأثر كثيراً، ولم يعد أصحاب الثروة مثلما كانوا في السابق بعد أن تراجعت عندهم ثقافة البذل والعطاء وقوة الوازع الديني، وأصبحت المصلحة الخاصة تتفوق عندهم على مبدأ المصلحة العامة.ما يحدث في الغرب من تهافت الأثرياء على إنفاق ثرواتهم في العمل الخيري هو اقتباس صريح لما كان يحدث في تاريخنا الإسلامي، حيث أصبح القطاع الخيري هناك يعتمد بصفة أساسية على أموال الأثرياء، ويكفي هنا أن أشير إلى بعض الأمثلة: «وارين بافيت» الذي قدرت ثروته في عام 2007 بنحو 62 مليار دولار خصص منها 83% لدعم الأبحاث الطبية ومساعدة الفقراء والمرضى وتشجيع التعليم والتنمية في البلدان الفقيرة وفلسفته في ذلك أن الثروات التي تتدفق من المجتمع يجب أن يعود جزء كبير منها إلى المجتمع ليستفيد منها. وبيل جيتس مؤسس شركة «مايكروسوفت» الشهيرة خصص غالبية ثروته لأعمال الخير وتفرغ من أجلها، وفلسفته في ذلك أن «وهب المال أصعب من صنعه». والرئيس الأميركي السابق بيل كلينتون أصدر كتاباً عنوانه: «بالعطاء لكل منا أن يغير العالم» تحدث فيه عن تجربته في العمل الخيري، وسبب توجهه إليه حيث يقول: «عندما غادرت البيت الأبيض، أدركت أنني أريد تمضية ما بقي من حياتي وأنا أكرس وقتي ومالي وخبرتي في بذل جهود تمكنني من إحداث فرق ما في هذه الحياة فأردت أن أساعد على إنقاذ حياة الناس ومعالجة القضايا الكبرى ومنح عدد أكبر من الشبان فرصة لتحقيق أحلامهم..
إن من دوافع المتبرع الغربي لهذا السخاء الداعم للخير أن التطور الحضاري الذي يشهده الغرب في كل المجالات لا تصلح معه المعالجة الفردية والسطحية، بل العمل الخيري المؤسس، الذي أصبح ضرورة تفرضها الاستجابة لتلك الأشكال المعقدة، فهل يُعاد النظر في العالم الإسلامي في مفهوم العمل الخيري، بحيث نُحيي سنته كما كان في السابق.