الحياة من حيث هي فكرة ومعنى تحمل دلالات مناقضة للموت والعدم، الحياة تعني الأمل والفرح والبناء والفعل والكدح والصراع ..إلخ، أي أن الحياة تحمل تناقضاتها في عمق المعنى كما في عمق الفكرة، وإلا لانتفت الحياة من دون تلك المتناقضات، هل نتصور الحياة بلا موت، بلا صراع شرس ويومي ومستمر بين الخير والشر، هل هناك حياة بلا ضجيج وأصوات وبكاء وهزائم وانتصارات، وقنابل وحروب، ومدن جميلة وقرى ومساحات خضراء يكد في زراعتها فلاحون فقراء معدمون أحياناً لأجل أن يأكل الآخرون خبزاً طازجاً وفطائر محشوة بالشيكولا والزبدة، بينما هؤلاء الفقراء قد لا يحصلون إلا على الفتات، تبدو هذه التناقضات عادية ومقبولة جداً، لأن الحياة تأسست على الصراع والتدافع والمجاهدة، أي كأنها خلقت من ضلع أعوج متناقض ومستقيم وباق ومستمر على أساس تلك التناقضات!
لا غرابة أن تحمل أي فكرة أخرى، كبيرة كانت أو صغيرة تناقضاتها هي الأخرى، أحياناً قد تقود تلك التناقضات الفكرة إلى نهايتها المحتومة، وأحياناً قد تحافظ على ديمومتها وطزاجتها - يقول البعض - أعتقد أن الحياة في نهاية الأبدية ستنتهي حين تبلغ تناقضاتها قمة صراعها، ولن يبقى هناك حياة، الفكرة كذلك حين تكبر وتستنفد شروط بقائها تضمحل ومن ثم تنتهي، هكذا انتهى الاتحاد السوفييتي القائم على الفكرة الشيوعية الاشتراكية، لم يسقط الاتحاد السوفييتي لأن الرئيس ميخائيل غورباتشوف حمل فأس البريسترويكا وإعادة البناء وحطم أيقونات الفكر الشيوعي والمجتمع الاشتراكي ودعوات ماركس ولينين وستالين، الاتحاد السوفييتي سقط لأن الفكرة التي استنفدت اشتراطات بقائها انفجرت بفعل قوة تناقضاتها.. هكذا وعبر عقود من التطبيقات الخارجة على احتياجات الإنسان الحقيقية!
اليوم، أوروبا الغربية والولايات المتحدة على وجه الخصوص هي التطبيق العملي لفكرة الديمقراطية والليبرالية في أقصى تجلياتها، هذه الفكرة التي تصدت لحائط برلين فحطمته ووزعت على أنقاضه مشروب العولمة الأول الكوكاكولا، ونشرت العولمة ودعت إليها باعتبارها حق الإنسان في التحرر من كل قيود الجغرافيا والثقافات والهويات، هذه الفكرة متمثلة في الولايات المتحدة لا تتورع اليوم عن بناء حائط المكسيك، وعن منع التنقل والهجرة إلى أراضيها، وعن معاملة الشعوب الحالمة بالحرية وفق هوياتها وإثنياتها ودياناتها، فهل يقوم ترامب بما قام به غورباتشوف حين تسبب في إسقاط الاتحاد السوفييتي؟