قبل عقد من الزمان فقدت الإمارات باني نهضتها الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، طيب الله ثراه، والذي بنى دولة أصبحت اليوم أنموذجاً فريداً بين الدول الحديثة. الدولة التي وضع أسسها زايد ونائبه راشد لم تكن دولة عادية بل اتحاداً فيدرالياً، أو كونفيدرالياً، مميزاً يناسب متطلبات المجتمع المحلي في تلك المرحلة .
كما يناسب متطلبات المنطقة وظروفها. ما يميز ذلك الاتحاد أن فكرته مختلفة كل الاختلاف عن غيرها من الأفكار التي راجت في القرن العشرين. لقد كانت تلك الفترة فترة الأيديولوجيات والشعارات القومية الثورية والتحررية البراقة التي راجت في فترة الخمسينيات وحتى السبعينيات من القرن العشرين.
تلك الفترة أيضاً تميزت بارتفاع وتيرة الصراع الدولي والحرب الباردة والتي رمت بظلالها على منطقة الشرق الأوسط بأكملها بوصفها منطقة تموج فيها الأطماع الدولية كما تموج فيها كل الأفكار الراديكالية المستوردة.
فلا غرو أن تتميز الأنظمة العربية في تلك الفترة بالشخصنة وظهور رموز قومية نظر لها العالم على أنها رموز سيادية خلقت لكي تتربع على كراسي الحكم وتقود بلدانها طبقاً لأجندات معينة. كانت الوحدة الشاملة مطلباً قومياً للجماهير العربية التي دوماً ما كانت تنادي بـ «وحدة عربية من المحيط إلى الخليج»، ولكن الأمل في قيام مثل تلك الوحدة ضعيف ليس لعدم وجود العناصر الضرورية اللازمة لتلك الوحدة.
ولكن لغياب القائد الملهم الذي كان يضع مصالح أمته نصب عينيه ويرى في تلك الوحدة تجسيداً لآمال الشعوب وليس تجسيداً لأمله في الوصول والتربع على عرش الدولة. لذا فإن جميع تلك الاتحادات التي ظهرت في تلك الفترة سرعان ما انكفأت وماتت وهي في المهد.
نجاح اتحاد الإمارات كان وراءه فلسفة إنسانية واجتماعية وحضارية رائدة وفكر مختلف تماماً عن الفكر الشائع أنذاك. فلسفة زايد كانت قائمة على أساس أن الاتحاد غاية وهدف لرعاية ورفاهية الشعب وأن دور الدولة هو الوصول إلى ذلك الهدف. ولهذا نجح اتحاد الإمارات وفشل غيره.
عقد مضى على غياب زايد ولكنه لا يزال يحتل مساحة واسعة في قلوب شعبه، بينما غاب عن الذاكرة العربية الكثير من الشخوص التي تمترست على كرسي الحكم وأطلقت الشعارات القومية والأيديولوجيات الراديكالية والتي لم تخلف وراءها إلا الدمار والتخلف لبلدانها.
من يرَ الدولة التي أرسى دعائمها زايد يحس بالفرق بينها وبين تلك الدول التي قامت على تلك الشعارات، ويرَ الفرق بين الدولة التي قامت على الجد والعمل الإنساني الملهم والحب المتبادل بين الشعب والقيادة وبين الدولة التي قامت على الخوف من السلطة وعلى حب السيطرة.
لقد حبا الله الإمارات بقيادة حنونة جعلت من رفاهية الإنسان أولوية من أولوياتها القصوى وجعلت من تحقيق الامن والسلام والاستقرار غاية. لقد وضع زايد منهاجاً لهذه الدولة لكي تسير عليه وبذلك يتحقق السلم والعدل الاجتماعي الضروريان لاستمرارية أي نظام وديمومته.
هذا المنهاج هو رفاهية المواطن وتأمين كافة احتياجاته ومتطلباته المجتمعية بحيث لا يكون هنالك مجال للشكوى أو الاحساس بالظلم أو بغياب العدالة الاجتماعية. هذه هي فلسفة زايد وهي أيضاً الفلسفة التي تسير عليها القيادة السياسية الحالية بقيادة خليفة بن زايد رئيس الدولة. فلا غرو أن تصبح الإمارات ليست فقط واحة للسلم والأمان لكن أنموذجاً يحتذى به في التنمية والبناء الإنساني الخلاق. لقد نجح زايد ..
فيما فشل فيه الكثيرون. لماذا؟ لأن زايد لم يكن يملك أجندات سياسية خاصة أو أحلاماً شخصية يريد توظيفها بل امتلك حساً قومياً وروحاً محبة للجميع. لقد مدت الإمارات يدها وهي لا تزال في بداية تكوينها لكافة أصقاع العالم تساعد المنكوب والمحتاج وترطب كل أرض أصابها اليباب.
فلا غرو أن يلقب زايد بـ «صاحب اليد الخضراء». فقد طالت مناقبه قارات أفريقيا وآسيا وأوروبا. العالم اليوم لا يزال يقف مبهوراً أمام فلسفة زايد ولا يزال في حاجة ماسة لقادة يمتلكون حس زايد الفطري والإنساني. فلسفة زايد في بناء الدولة والأوطان بحاجة إلى أن تكون منهاجاً يدرس في مدارس إعداد القادة والقياديين ليصبح العالم أكثر أماناً وتحضراً.
العالم اليوم بحاجة إلى قادة من أمثال زايد لخلق عالم خالٍ من الأنانية والكراهية ونبذ الآخر وتلك الأفكار والأيديولوجيات التي تدمر ولا تبني. العالم اليوم لا يزال يذكر زايد الرجل البدوي الذي خرج من عباءة الصحراء ليبني دولة غاية في الحداثة بينما نسي قياديون تخرجوا في أعتى مدارس إعداد القادة ولم يتركوا إلا الأثر السيئ على بلدانهم وعلى العالم.