مهنة التمريض من أرقى المهن وأنبلها وأكثرها قرباً من العمل الإنساني، تتجلى فيها الرعاية والرحمة وتخفيف الآلام، ويتلقى الممرض/ الممرضة على الفور الدعاء والأمنيات والشكر، فليس أجمل من أن يخفف المرء آلام الآخرين، ويشحنهم بالأمل ويساعدهم على تقبل المحن، وخاصة الصحية منها، فهي التي تشكل مفاصل حاسمة في حياة الإنسان.
وواقع التمريض في بلادنا معروف، فالدولة تبذل قصارى جهودها لتوفير الرعاية التمريضية والصحية والطبية للمواطنين والمقيمين، وتستعين في ذلك بالعناصر غير الإماراتية، وفي أحيان كثيرة، الكوادر غير العربية.
فمهنة التمريض أصبحت كما يقولون (عملة نادرة)، وهناك إقبال من العالم أجمع على طلب هذا التخصص، ويلاحظ أن الإقبال على الانخراط في هذه المهنة الإنسانية العالية ضعيف، ليس فقط لدينا، وإنما تكاد هذه الظاهرة تشكل ملمحاً مشتركاً في الوطن العربي، وربما في العالم الغربي، ولهذا، انتبهت الدول الآسيوية للمسألة، وكثفت من توفير خريجين في مجال التمريض، وخاصة في دول مثل الفلبين والهند، بحيث أصبحت هذه الكوادر تغزو العالم بأسره.
في الإمارات، هناك أسباب كثيرة لضعف نسبة الممرض المواطن في المؤسسات الصحية والطبية، وأسباب أخرى لعزوف الفتاة أو الشاب الإماراتي عن هذه المهنة، وهذه الأسباب أدت إلى أن تكون نسبة الممرضين من المواطنين، ذكوراً وإناثاً، لا تتعدى 4%، وهذا ما صرحت به الدكتورة مها تيسير بركات مديرة عامة هيئة الصحة - أبوظبي، خلال افتتاحها فعاليات يوم التمريض العالمي، الذي عقد في أبوظبي أواخر الشهر الماضي، حيث قالت: «لا يخفى على الجميع أن نسبة التوطين في مهنة التمريض 4%، وعلى الرغم من كون هذه النسبة ضئيلة، إلا أن هناك مساعي جادة وجهوداً حثيثة لاستقطاب المزيد إلى المهنة والارتقاء بها أكاديمياً ومهنياً».
بينما تحدثت الدكتورة عائشة المهري، رئيسة جمعية الإمارات للتمريض عن التحديات التي تشكل عائقاً وتحدياً أمام زيادة نسبة التوطين ومنها غياب الحوافز والترقّي الوظيفي والتعليم المستمر، وغياب الدراسة الأكاديمية التي تدعم التخصّص في مجالات التمريض، بمعنى أن التمريض لم يصبح تمريضاً عاماً فقط، بل أصبحت هناك حاجة للتخصص في العناية المركزة والأطفال والجراحة والطوارئ، وأشارت الدكتورة المهري إلى نقطة مهمّة تتمثل في غياب المؤسسات التعليمية في العديد من المناطق التي يوجد استعداد لدى المواطنات فيها للانخراط في سلك التمريض، مثل إمارة الفجيرة، وأوضحت أن الإمارة ستشهد افتتاح فرع لكليات التقنية قريباً، سيوفر على الطالبات عناء السفر والدراسة في مناطق أخرى في الدولة، فأغلب الأسر لا ترضى بأن تسافر بناتهم للدراسة بعيداً عنهم سواء في داخل الدولة أو خارجها.
ومن بين الأسباب التي ذكرتها الدكتورة المهري فيما يتعلق بتراجع معدلات التوطين في المهنة، السلم الوظيفي غير المشجع والرواتب والحوافز، وضغوط العمل، والبيئة التي تعمل فيها الكوادر التمريضية.
والأسباب التي ذكرتها الدكتورة المهري ليست وحدها المسؤولة عن تراجع نسبة الكوادر التمريضية، فقد ذكرت الدكتورة مها تيسير بركات، مديرة عامة هيئة الصحة بأبوظبي، مجموعة من العوامل التي أسهمت في ابتعاد المواطنين عن هذه المهنة، ومنها العمل بنظام المناوبات الليلي، وهذا ما يتصادم مع طبيعة حياة الكثير من النساء، إضافة إلى نظرة المجتمع للمهنة.
الأسباب الواردة كلها مهمة، لكننا نعتقد أن أهمها يكمن في نظرة المجتمع للممرضة أو حتى الممرض، فهي نظرة دونية، وأصبح يعتبرها من المهن الخاصة ب(الفلبينيات والهنديات)، مع الاحترام الشديد للجاليتين والجنسيتين، والشريحة التي تنظر بدونية إلى هذه المهنة، تنسى أن الرعاية التمريضية ليست مهنة آلية، وإنما هي مهنة يمنح الممرض فيها من روحه أثناء عمله، ويقدم من طاقته الإيجابية الشيء الكثير، وأنا أشك أن الجرعة الدوائية التي يتناولها المريض من يد صمّاء غير مصحوبة بدعوات الشفاء والروح الإنسانية الرقيقة الشفافة، لن يستفيد المريض منها.
فعملية التمريض إنسانية أكثر منها وظيفة جامدة يؤديها الفرد ويمضي إلى بيته. وهذه الروح التي يجب أن تتوفر في الممرض يجب أن تكون قريبة من المريض، ومن ثقافته وعاداته وتقاليده وأسلوب حياته، ولهذا، فإن الممرضة أو الممرض الإماراتي هو الأقدر على فهم متطلبات المريض النفسية والصحية والمجتمعية، ونحن هنا لا ننكر على الكادر التمريضي الحالي جهوده وتفانيه في خدمة المرضى.
ومن هنا، لا بد لمن يعمل في مهنة التمريض أن يشعر بالفخر، لأنه يقدّم خدمة جليلة لأهله وناسه ومجتمعه، ويتقاضى عليها الأجر في الدنيا والآخرة.
ولهذا، لا بد من القيام بحملات توعية تظهر نبل هذه المهنة وإنسانيتها والخير الكامن في ممارستها، وتشجيع الفتيات على الانضمام إليها والانخراط في هذا العمل الإنساني الكبير.
إن رفع هذه النسبة ال(4%) يمكن أن يتحقق، لكنه لن يصل إلى نسب مرتفعة، أي لن يصل إلى 40 أو 50%، وذلك نظراً إلى عدد السكان، وتوجه نسبة كبيرة من خريجي وخريجات الثانوية العامة لدراسة إدارة الأعمال أو تكنولوجيا المعلومات، أو تخصصات أخرى مثل المالية والعمل المصرفي والدراسات الإنسانية، التي تؤدي بالخريجة إلى العمل كمدرسة أو موظفة بدوام ثابت ونهاري، علماً بأن مهنة التدريس هي الأكثر قبولاً في مجتمعنا الإماراتي والخليجي بشكل عام.
هناك مفاهيم كثيرة يجب تصحيحها، وتتعلق بقيمة العمل، وماهيّة العمل، ومن يعمل ولماذا، وعلينا التخلص من اعتقاد خاطئ وهو: ربط بعض المهن بجنسيات بعينها، وعلى الرغم من أن هذا الربط يجافي المنطق، إلا أنه يعزز إحساساً بالتفرقة بين بني البشر قد يقود إلى العنصرية، ونحن أبعد ما نكون عن هذا الفكر أو الاعتقاد، لأننا نؤمن أن لا فرق بين عربي وأعجمي أو بين أبيض وأسود إلا بالتقوى، وإن أكرمكم عند الله أتقاكم.
هناك شريحة كبيرة لا تتوجه إلى سوق العمل بعد التخرج، وخاصة الفتيات، فلسان حال الأهل يقول إنهن غير محتاجات، فالخير وفير والحمدلله، إلا أن العمل، وخاصة بالنسبة للفتاة، ليس بهدف الراتب أو تكوين ثروة، فرصيد المشاركة في العمل الوطني هو الثروة، والارتقاء بالتنمية المجتمعية هو الرصيد الحقيقي للشعوب والدول، فضلاًعن المحافظة على القدرات والمهارات ونقلها إلى الأجيال.
ليست مهنة التمريض وحدها تحتاج إلى حملات توعية، هناك مهن أخرى في حاجة إلى ذلك، وجميعنا يعرفها.
فلنبدأ منذ الآن بالعناية بحدائقنا المنزلية بين وقت وآخر، وتحضير وجباتنا بين يوم وآخر، وسنجد أن الحياة أجمل.