بعيداً عن ضجيج الإعلام وصراعات السياسة والسياسيين، وبعيداً عن منطق التخريب وجماعات التفجيرات ونشر الذعر، فإن هناك منطقاً آخر يفرض سطوته في الحياة شاء أولئك أم أبوا، إنه منطق الحياة والبهجة تحت سماء مدن تستقبل ملايين الناس كل يوم لأن هناك ما يجذبهم إليها، ما يدعوهم ويستدعيهم ليأتوا على جناح السرعة.
بعض المدن تشكل سماواتها مظلة واسعة، ملونة، أنيقة، وتفوح بكل الروائح، تستحضر كل الأطعمة، وتقدم روائح كل الحضارات. اسطنبول واحدة من هذه المدن، أجدها دائماً كما أتمناها كلما شدني هاجس السفر إلى مدينة عابقة بكل الخيارات.
في اليوم الأول، وفي أحد مقاهي اسطنبول، هناك في تلك الزاوية الظاهرة أول الميدان يبدو لي فضاء المقهى حالة إنسانية كاملة، تختلط فيها السياسة بالجغرافيا، والاقتصاد بالتاريخ، يختلط فيها بؤس اللاجئ برفاهية السائح، ضياع المهاجر باحتيالات الفقير والمحتاج، يضيع الباحث عن البهجة وسط الباحثين عن اللهفة..
ويمتزج الباحثون عن أنفسهم بالباحثين عن الحكايات والقصص والصور، تجلس لتشرب ( استكانة جاي) فتمر أمامك حياة كاملة وآلاف البشر، وتجهد نفسك وروحك كي لا تنزلق مع أصوات المتسولين وبائعي السبح والمناديل الورقية، فهؤلاء البائسون يتكئون عليك ليلتقطوا قوتهم وأنت تتكئ على نصائح كثيرة بألا تلقي لهم بالاً، وتظل روحك تواقة لفعل آخر وسؤال كبير يطاردك: ماذا لو منحتهم بعض المال؟ فتعرف أنه من الأفضل لو أنك لا تفعل!
في منطقة السلطان أحمد، تبدو غيمة حادث الانفجار الأخير الذي طال المكان منذ قرابة الشهر وكأنها تلاشت من سماء المنطقة، عادت الحياة تعبق كعاداتها، النساء بمعاطفهن الأنيقة، الباعة، العشاق..
وجدٌ يلتقط صورة لحفيده بينما يده ترتجف من البرد وهو يبتسم، بينما المسجد الأزرق يلتمع بقبابه الرمادية تحت سماء الشتاء الحالمة هذا المساء، وآيا صوفيا مكان قديم جداً لايزال يتأرجح بين زمانين وحضارتين ودينين، صار متحفاً بعد أن تحول مسجداً زمن السلاطين العظام الذين استولوا عليه من الامبراطورية الرومانية إثر سيطرتهم على اسطنبول بكل إرثها وتراثها وكنائسها، كنيسة آيا صوفيا صارت متحفاً واقفاً كوقوف الذي على نقطة تماس خطيرة حفظاً لكثير من الاعتبارات والإشكالات، ومن غرائب الصدف أن يقف مسجد السلطان أحمد في مواجهتها وعلى بعد خطوات منها، هكذا تجاورت الحضارات وتحاورت بعبقريتها الخاصة دون صراع وفي مرحلة ما بعد الصراع كذلك !
اسطنبول، دولة أقامت مجدها في ظلال هضبة آسيا العظمى وألقت برأسها على وسادة أوروبا الحالمة، الجزء الأوروبي منها يبدو كمعطف بالغ الرومانسية تتدثر به اسطنبول كل يوم وتحلم أن تكون جزءاً منه، ليس من جغرافيته فقط ولكن من نسيجه الاقتصادي والسياسي !!