أوروبا الشرقية تشظت وتحولت من الاتحاد السوفييتي إلى روسيا الاتحادية وقد تبعثرت إلى دول، فتشيكوسلوفاكيا، أصبحت دولة التشيك ودولة سلوفاكيا أخرى، ويوغوسلافيا تفتت إلى صربيا وكرواتيا والبوسنة والهرسك، أما «أرضستان» فقد صارت أوزبكستان وكازاخستان وقرغيزستان وتركمانستان وطاجيكستان، وها هو «بوتين» من سلالة الاتحاد السوفييتي العتيق والنسب الإمبراطوري العريق يحاول جاهداً إعادة عقارب الساعة إلى الوراء ولو كلفه ذلك حرباً ساخنة بعد الحرب الباردة التي استمرت لعقود وعادت ساخنة من طرف روسيا.. بوتين في جورجيا واليوم في أوكرانيا التي أخرجت من تحت عباءتها شبه جزيرة القرم وتكاد تشعل صراعاً طويلاً من جديد في هذه المنطقة، حيث ذهبت تبحث عن الاتحاد الأوروبي و«الناتو» بأي ثمن، وها هو الوضع لا زال على الجرار والكل في قطار الانتظار.
أما في أوروبا الغربية فإن الوضع طبعاً أكثر استقراراً من الشرق الأوروبي، لأنها انتهت من بناء البنية الأساسية للديمقراطية، التي كانت تحلم بها منذ قرون بعد حروب دامية أكلت من حسابها الخاص ملايين البشر في حربين عالميتين لم يمر لهما على البشرية شبيه في التاريخ القديم والمعاصر.
سقط سور برلين في أوائل التسعينيات من القرن الماضي فاستطاعت ألمانيا الغربية احتضان ابنتها الشرقية وتوحيد عاصمتها برلين من جديد، وإرواءها بمبلغ قدره آنذاك قرابة 80 مليار مارك وحدت الألمانيتين ورمت بديكتاتورية وتركة هتلر وراء ظهرها إلى غير رجعة، وها هي أنجيلا ميركل المرأة الألمانية الشرقية التي خرجت من جحيم تلك الفترة العصيبة من تاريخ أوروبا الشرقية تقود سفينة وحدة الألمانيتين من جديد وهي تفتخر اليوم بأنها تقود أوروبا بأكملها نحو بر الأمان بعد أن عصفت بها الأزمة المالية العالمية، فأخرجت ميركل سلاح التقشف وأجبرت الدول الأوروبية المتعثرة على ربط الحجارة على بطونها وأمرتها أن تقول: قرقري أو لا تقرقري بأنه ليس لك إلا التقشف طعاماً وشراباً وإلا أودت المعاناة بالكل من أمراضهم المالية والاقتصادية.
إلا أن هذه الوحدة الألمانية القوية والعصية اليوم على موجات الانفصال التي تجتاح أوروبا الغربية من جديد لم تعد ضامناً لبقاء أوروبا موحدة في كل جزئياتها، فها نحن اليوم على أبواب انفصال واستقلال «اسكتلندا» في 18-9-2014، عن جسد الأم البريطانية التي احتضنت هذه الطفلة منذ قرون، وها هي اليوم تفيق على حلم الاستقلال عن أمها بعد أن بلغت الرشد السياسي، في حين كل السياسيين البريطانيين هجّوا إلى اسكتلندا لمنع هذا الانفصال تحت شعار «نحن معاً أفضل» والنتيجة في استطلاعات الرأي إلى هذه الساعة التي قاربت على إعلان الاستقلال التام بنسبة صعبة التحمل إلى ذلك اليوم الموعود، لأن نسبة 52% لصالح البقاء معاً قد لا تشفع، أما نسبة 48% فتطالب بالانفصال والاستقلال باستخدام سلاح الديمقراطية التي حبت اسكتلندا كذلك وهي تحت التاج البريطاني.
ولو نجح هذا المشروع الانفصالي لصالح استقلال اسكتلندا فإن تيار الانفصالات في الدول الأوروبية الأخرى سيأخذ زخماً قوياً في الاتجاه ذاته في إقليم الباسك الإسباني، ولا يستبعد ذلك في بريطانيا ذاتها من جديد، وفي إيرلندا على وجه الخصوص التي خاضت صراعاً مسلحاً من أجل الاستقلال حتى قبلت بالولايات المتحدة في عهد كلينتون وسيطاً للبقاء معاً، خاصة أن كلينتون في أصله إيرلندي، وكان بحاجة إلى إعادة انتخابه في أميركا التي تحوي 40 مليون أميركي من أصل إيرلندي.
لقد عقدت بريطانيا في بداية عقد التسعينيات مؤتمراً ضخماً كان عنوانه الرئيسي «بريطانيا إلى أين؟» وطرحت فيه ثلاثة آراء رئيسية هي خلاصة كل أوراق العمل التي قدمت لتوضيح مصير بريطانيا في المستقبل، فهناك من قال إنها ما زالت بألف خير، وآخر ذكر أنها في تراجع مقارنة بأميركا، وآخرون رأوا أن مصيرها أن تتحول إلى «سنغافورة» أخرى ليس لها أي امتداد في المستقبل القريب، فهل من الممكن تحقق النبوءة الأخرى إذا ما استقلت اسكتلندا في اليوم المنشود؟!