عندما يقع الناس في أزمة التطرف والغلو فإنهم يطرحون ثقافة البدائل، من التوسط والاعتدال والتوازن كحل لهذه القضية.
والحق أنها ليست بدائل، بل هي الحقائق المفقودة التي أدى فقدانها إلى ما لا نريد وما لا نفكر فيه. والحق أيضاً أن التطرف قضية كبرى تهدد الإنسان وحضاراته وتحوله إلى وحش قاتل.
ولا يمكن لأصحاب هذا الفكر أن يسمحوا بأي تطور في المعرفة والسلوك، أو في التنمية والحضارة، أو في رؤية المستقبل واستشراف آفاقه. ومن يؤيد هذا الفكر أو يتعاطف مع أصحابه فإنه منهم.
يجب أن يكون هذا الأمر واضحاً ومسلّماً به منذ البداية عند الحديث عن التوازن المفقود في معالجة التطرف والغلو؛ لأننا في بعض الحالات وربما كثيراً ما نُحارب شيئاً، لكننا نؤكد وجوده ونركز الدعاية له من حيث لا ندري ولا نشعر، وهذا ما يحصل لنا في المحاربة والمواجهة للتطرف والغلو. والذي يتكون من خلال مراحل يُنتج بعضها بعضاً فأولها المرحلة الثقافية التي يتم فيها التأسيس للغلو والتطرف من خلال مناهج تعليمية صلبة تكرس العداوة وتحجر الحقيقة وتتحدث عن المختلف بصفته الكفرية الضدية التي يجب القضاء عليها وإتلاف منجزاتها. وكل ذلك في سبيل الله. ومن أجل جلب التعاطف مع هذا الدرس التعليمي يُقدم الممارسون لهذه الثقافة عبر التأريخ بأنهم الأبطال الماجدون. هذه الثقافة التعليمية أياً كان مكانها في تعليم المدارس أو في تعليم المساجد وخطبه الأسبوعية على مدار العام، أو في الفتاوى والأحكام عبر وسائل الإعلام ووسائطه. كل هذه الثقافة تؤسس للمرحلة الثانية، وهي التطرف والغلو الفكري، الذي ينتجه المتطرف نفسه من خلال التفكيك والتركيب لتلك الثقافة التي كانت ترافقه في بيته ومدرسته ومسجده وعبر الأثير في سيارته. هذه المرحلة مع خطورتها لا تقل خطورة عن مرحلة الثقافة الفكرية أو السلوكية المتطرفة، إلا أن اهتمامنا بمواجهة المرحلة الفكرية أكثر، لأنها أصبحت حالة ظاهرة يمكن التعامل معها فكرياً وأمنياً، مع أن المواجهة الفكرية للفكر المتطرف مع بقاء الخطاب الثقافي الداعم له هو حال من فقدان التوازن في المعالجات والحلول.
إن شيئاً لا بد من أن يحصل، فالحديث عن التوسط والاعتدال والتوازن يجب أن يكون حقيقياً في مفاهيمه وفي أنظمته وسلوكياته. ويجب أن يلمسه الناس في حياتهم وممارساتهم من خلال العدالة الاجتماعية والحقوق الإنسانية، وفي ذلك أبلغ تعليم وأصدق تعبير عن هذه المعاني الكبيرة والجميلة.
فالحديث عن طعم التفاحة مهما كثر واتسع فإنه لا يساوي شيئاً عند قضمة واحدة يتذوقها الإنسان من التفاحة التي يسمع الحديث عنها. وإن تغيراً حقيقياً لا بد من أن يحصل في البنية الثقافية. فالمناهج الدينية التسامحية الحياتية يجب أن تكون هي مدار التعليم والخطابة والإعلام، وفي السيرة النبوية الشريفة التي يتم اختزالها بالمغازي والسيرة.
فيها حياته الشخصية -صلى الله عليه وسلم- ويومه النبوي الشريف، الحافل بعباداته وتألهاته وجماليته وابتساماته وتعاملاته. وهو البطل الحقيقي الذي يجب أن يستلهمه الجميع معلماً للبشرية ورحمة للعالمين. وإن أمة لا يحضر نبيها في حياتها إلا عند جدل الخلاف بين الحلال والحرام، هي أمة فاقدة للتوازن وآثمة في سلوكها. فالاعتدال التعليمي والإعلامي والحياتي عموماً كان بقيادة محمد -صلى الله عليه وسلم-. وحين تكون القيادة للمذاهب والمصالح والرموز القاصرة فإن التوسط يتحول إلى تطرف آخر يدعو إلى رأي المذهب والشيخ، وينحاز إلى بقاء «الأنا» على حساب الكل. وهنا يتأكد الشر فيما نحن نريد الخير. فهل نحن أمام جُرأة تصحيحية للثقافة الغالية المتطرفة؟ وهل نعيد تشكيل مناهج التعليم الديني من خلال الحياة الشخصية للنبي -صلى الله عليه وسلم-؛ ليظهر في حياة أبنائنا كما هو عظمة مذهلة، بدل أن يضيع اسمه الشريف بين جدليات الفقه وخلافاته، وكذلك الحال في خطب الجمعة ومدارس المساجد، وفي الإعلام الديني المتخصص، أو في الإعلام العام، الذي كله لا يعكس أننا نواجه التطرف في مرحلتيه الثقافية والفكرية. أما مرحلته السلوكية الفعلية فليس لها إلا المواجهة الأمنية التي تقضي عليها وتحفظ للإنسان كرامته وللأوطان أمنها.