في خطوة وُصفت بأنها محاولة لتغليف الرقابة بعباءة "المسؤولية الوطنية"، أطلقت السلطات الإماراتية منصة رقمية جديدة تحت اسم "آمن"، قالت إنها تهدف إلى "تعزيز مشاركة المجتمع في مراقبة المحتوى الإعلامي" و"رصد المحتوى غير الآمن أو المضلل"، في خطوة تثير جدلاً واسعًا حول حدود حرية التعبير وتوظيف مفهوم "الوطنية" في تقييد الرأي العام.
يأتي إطلاق المنصة في وقت تواجه فيه أبوظبي انتقادات متصاعدة داخليًا وخارجيًا بسبب سجلها في قمع الحريات واعتقال ناشطين ومثقفين وصحفيين، إلى جانب تدخلاتها السياسية والعسكرية في دول الجوار، والتطبيع العلني مع الاحتلال الإسرائيلي الذي أثار رفضًا واسعًا.
وقد انعكس ذلك على صورة الدولة وسمعتها الدولية، التي تآكلت خلال السنوات الأخيرة، بعدما كانت تُقدَّم كأنموذج للتنمية والانفتاح، لتتحول إلى محور انتقاد مستمر في الإعلام العالمي وعلى منصات التواصل الاجتماعي.
من السيطرة الإعلامية إلى الرقابة المجتمعية
ويرى مراقبون أن سلطات أبوظبي، التي لطالما سعت إلى التحكم بالمشهد الإعلامي التقليدي والرقمي، تواجه اليوم صعوبة متزايدة في ضبط الرأي العام داخل فضاءات الإنترنت المفتوحة والمتنوعة.
وفي هذا السياق، تُقدَّم منصة "آمن" كأداة جديدة تسعى من خلالها أبوظبي إلى تمديد رقابتها عبر "مشاركة المجتمع" نفسه في رصد المحتوى، في محاولة لتحويل مفهوم الرقابة إلى "واجب وطني"، وربط الوطنية بمفهوم الولاء لخطاب الدولة الرسمي.
إلى جانب المنصة، أصدر مجلس الإمارات للإعلام – وهو جهة حكومية – 20 معيارًا ملزمًا للمؤسسات الإعلامية والعاملين في القطاع، تحدد ما يجوز نشره وما يُمنع، تحت مبرر "ضمان توافق المحتوى مع قيم الدولة ومصالحها العليا".
وتتضمّن هذه المعايير إجراءات عقابية صارمة تشمل الإنذارات، والإغلاقات، والغرامات المالية التي قد تصل إلى مبالغ ضخمة بحق أي وسيلة إعلامية تُخالف تلك التوجيهات.
ويرى منتقدون أن هذه المعايير تُعيد تشكيل المشهد الإعلامي بما يخدم رواية السلطة وحدها، وتحصر مفهوم "الوطنية" في تأييد الموقف الرسمي، في حين يُجرَّم النقد أو يُنظر إليه كـ"إساءة للدولة".
"آمن".. عنوان جديد لتكميم الأفواه
ويقول ناشطون إن منصة "آمن" لا تُعد سوى نسخة رقمية محدثة من أدوات الرقابة القديمة، إذ تتيح للمستخدمين الإبلاغ عن أي محتوى لا ينسجم مع الرواية الرسمية، ما يجعلها – بحسب مراقبين – وسيلة لتكميم الأفواه والتخويف الذاتي في فضاء يفترض أن يكون حرًا ومفتوحًا.
ويحذر خبراء في الإعلام الرقمي من أن مثل هذه الخطوات قد تؤدي إلى انكماش المساحات الحرة للتعبير، وتزيد من رقابة المجتمع على نفسه بدلاً من تعزيز الحوار والتنوع، وهو ما يتناقض مع معايير الشفافية والانفتاح التي تروّج لها الدولة في محافلها الخارجية.
وأمام هذا المشهد، تتجدد التساؤلات: هل تُترجم "المسؤولية الوطنية" بمصادرة الآراء وتكميم الأصوات؟ وهل يمكن لوطنٍ أن يزدهر في ظلّ رقابة تمتد إلى كل تغريدة ومنشور، وتُعرّف "الولاء" بمقدار الصمت؟
بينما تمضي السلطات في فرض أدواتها الجديدة، يبقى الصوت الحر – رغم كل القيود – الساحة الأخيرة التي تحاول النجاة من قبضة الرقابة المغلّفة بالشعارات