في قصيدته «فلسفة الحياة»، غنى شاعر المهجر «إيليا أبو ماضي» للحياة، ليذكرنا بأهمية تأمل جمالياتها، و«أبو ماضي»، كما بدا لي، أحد دعاة التفاؤل وحب الحياة، كما اعتبر أستاذاً وداعية ومبشراً لعلم الجمال.
أكتب هذه السطور في أعقاب فكرة ورغبة ظلت تراودني منذ وقت، لتجاوز الروتين، لأقوم بجولة صباحية تبدأ مع بواكير الفجر، إذ تجاسرت وخرجت في صباح سماء غطتها تراكمات من السحب الكثيفة، ولم تنته نزهتي، التي أسعدتني، إلا بعد إطلالة الصباح، عندما بدأ شعاع الشمس يلوح في الأفق... واثقة أن غالبية الناس في ركضهم اليومي المحموم، وتحت ضغط الروتين، يتبلد إحساسهم بما حولهم، ومن ثم لا يرون في الوجود شيئاً جميلاً، وهكذا يتحول الإنسان إلى مجرد مستهلك للحياة، يلهث وراء الثروة والشهرة، وما بين الاثنين تتسلل الحياة من بين اليدين.. والغافل من يظن أن المكاسب والمنافع والمصالح هي غاية الحياة، وقديماً أشار قدماء الفلاسفة إلى أن الحياة الحقة تقتدي بالقيم الأخلاقية الرفيعة، وهي "الحق والخير والجمال". بدأت يومي باكراً لأحلق في عالم الجمال في حضرة حدائق ومتنزهات دبي، التي ترفل هذه الأيام من فصل الربيع، بجو أتاح للزهور أن تتفتح بألوانها الزاهية وشذاها الفاتن.. لقد حولت الحدائق والميادين والساحات الخضراء، إمارة دبي وجعلتها من أجمل العواصم على الإطلاق.
غافل من يمر ماشياً أو يمضي بسيارته مسرعاً، ولا يجد من الوقت ما يتسع لدخول واحدة من الحدائق العديدة التي تزخر بها عاصمة الجمال الطبيعي «دبي»، وهي تزهو في أجمل حللها في هذا الوقت من السنة. إن وراء هذا الجمال الباذخ، عشرات بل مئات من الخبراء والفنيين الذين لا نراهم، ولكن تدلنا عليهم جهودهم ومعاناتهم ليجعلوا من «دبي» ذات الصباح الباهر عاصمة للجمال.. وتكفي الإشارة إلى المسطحات التي التحفت بأجمل الألوان، وبسببها تحولت «دبي» إلى كرنفال يدهش كل متأمل لزهرة «البيتونيا». وهي تنام على مسارب اللانتيرا، وتبث عطرها النافذ كرائحة دهن العود المعتق لمن يسعده حظ المرور.
حيث ترفل بألوانها المتعددة؛ الأبيض والقرمزي والبنفسجي والأحمر والأزرق.. والتي تم اختيار توقيت إنباتها بدقة، ليتم نقلها من المشاتل إلى الحدائق والساحات وأركان الشوارع الرئيسة والفرعية، بهدف أساسي، هو إكساب سكان دبي وزوارها، الإحساس بألق الزهور ومتعة التأمل.
في كتابه «الإحساس بالجمال» (sense of Beauty)، ذكر «جورج سنتيانا» أستاذ علم الجمال «أننا نعيش في كون مطرز بالجمال، ولكنه فقط يحتاج إلى العين التي تبصره».
والمعلوم أن هنالك بلداناً عدة، لعل من أهمها هولندا، تصدّر للعالم أطناناً من نباتات الزينة والحوليات المختلفة، تتفاوت من الورد الإنجليزي إلى اللافندر والاستر والهايبكس.. وهي تشرئب صوب الضياء، بعد أن بللها الندى ونالت زخات من الماء.. عالم يضج بالحيوية والجمال.
على مدى ساعات، تأملت في هذا الكون المطرّز بالألوان الزاهية، كانت لحظات تأمل وعبادة وخشوع أمام صانع هذا الكون عز وجل، الذي يُخرج الحي من الميت، وتُدهشنا مخلوقاته. ويُعتبر تقديم الزهور في المناسبات الاجتماعية سلوكاً حضارياً.. كما تُهدى الزهور في كل المناسبات.
وهناك ما يؤكد أنه توجد علاقة تاريخية بين الإنسان والجمال والدلالات الإيحائية للألوان وتأثيراتها في نفس الفرد، فعلى سبيل المثال لمن تُهدى الورود Roses الحمراء؟ وماذا يعني اللون الأصفر عندما يقترن بلون زهرة؟ وما الزهور والألوان التي يفضَّل اختيارها كباقة ورد عند المناسبات المختلفة؟ وما ألوان الزهور التي ينبغي تجنب تقديمها كهدية؟
لقد تذكرت كل ما زال عالقاً بذاكرتي من تلك المحاضرات في فلسفة الفن والجمال، التي وسّعت مداركي بما لم أكن أعرف عنه شيئاً من قبل.
فالزهور، مع روعتها وما تبثه في النفس من إحساس بالجمال، لم تحظ بعد باهتمام أعداد كبيرة من أفراد المجتمع. إنه وبعد مرور أربعة عقود على دولة الاتحاد، فإن الأجيال الصاعدة ستمضي بتجربة دبي الخضراء قدماً للأمام، وعندما نقول «دبي الخضراء» فإننا نعني أن تتضافر جهودنا جميعاً للعناية بحدائقنا المنزلية، وتحويل بيوتنا إلى أماكن لتكاثر اللون الأخضر، وهكذا تتحول دبي إلى أجمل مدينة صديقة للبيئة.
ولعلها فرصة سانحة، أن أشكر كماً هائلاً من الأفراد الذين يعملون ليلاً ونهاراً، وطوال شهور السنة، في مشاتل بلدية دبي، وعلى رأسهم مدير إدارة الحدائق والزراعة في البلدية ومساعديه من الفنيين والعمال المهرة، تقديراً لما يبذلونه من جهود لاستنبات هذه المجموعات الجذابة لشتى أنواع شتول الزهور والورود.