عبّر بيان دولة الإمارات -يوم الخميس الماضي- عن أهمية وضع استراتيجية عالمية لمواجهة التطرف والإرهاب في العالم. كما أن ذلك البيان وضع كل المجتمع الدولي أمام مسؤولياته لمكافحة التطرف وخاصة ما يعرف إعلامياً باسم «داعش»، المليشيا الأشد تطرفاً مقارنة بكل الحركات التي ظهرت حتى الآن.
وفي الواقع كان تنظيم «داعش» -ولا يزال- محط انشغال الناس في العالم خلال الفترة الماضية. وقد زاد هذا الانشغال بعد دخول التنظيم مدينة الموصل، وانهيار الجيش العراقي أمامه بطريقة «دراماتيكية» لم يتخيلها أكثر المتشائمين، إلى درجة أقلقت المراقبين من إعادة تشكيل التحالفات في المنطقة على أسس جديدة. وهناك تطوران جعلا من هذه المليشيا حدثاً في كل وسائل الإعلام في العالم: طريقة التخلص من الأشخاص الذين يتم خطفهم، وقدرة التنظيم على الانتشار الجغرافي.
لقد جاءت ظاهرة «داعش»، تالية لظهور العديد من الحركات الإسلامية المتشددة، وعلى وجه الخصوص تنظيم «القاعدة» ما يجعل مسألة التفكير في أسباب ظهور «داعش» -رغم وجود محاولات لمعالجة المشكلة من قبل الدول والحكومات- أمراً مهماً. وهناك مخاوف جدية لها ما يبررها، من أن كل حركة متطرفة جديدة تظهر في المستقبل ربما تكون أشد فظاعة وقسوة مما سبقتها، وبالتالي يبقى الأمر وكأنه دوامة لا نهاية لها.
يمكننا أن نفهم من بيان الإمارات شيئين: الأول أن حركات الإسلام المتشدد، هي نتيجة لوضع اجتماعي مختل وليس مشكلة مستقلة بحد ذاتها، وبالتالي فإن التفكير في معالجة الأسباب ربما يقلل من ظهور هذه الحركات أو يجعلها أقل جرأة في الظهور على المجتمع. أهم تلك الأسباب تراجع دور المؤسسات الدينية عن القيام بواجبها التقليدي والمحدد في الحفاظ على الدين الإسلامي السمح، والعمل على ترسيخ الوسطية في التفكير ونشر الاعتدال. والشيء الثاني، أن تراجع المجتمع الدولي أو التأخر في تحمل مسؤوليته في مواجهة التطرف هو أحد أسباب ظهورها وانتشارها، ومن المؤكد أن نكوص القوى الكبرى في العالم عن القضاء على هذه الحركات في بدايتها هو سبب آخر لتمددها على ما هي عليه الآن. لذا فإن بيان الإمارات استبق قمة «الناتو» في لندن والمخصصة لمواجهة «داعش».
إن تراجع المنطق، جعل مثل هذه الحركات تظهر في الساحة بهذه البشاعة وكأنها الممثل الرسمي للإسلام، أو كأن هذا الدين لا ينظر إلى الأشياء بوصفها قابلة للتفكير فيها، وبالتالي فإن احتمالات ظهور حركات أخرى في المستقبل أمر يعتقده البعض وارداً، ما لم يتم تفعيل دور تلك المؤسسات وتعمل السياسة الدولية لمصلحة العالم وليس لمصلحة دول فقط، لأن الأمر سيصيبها في النهاية.
إذا اقتنعنا بأن ظهور مثل هذه الحركات يعود إلى أسباب فكرية، وأن ما تعتنقه من فكر متشدد ناجم أساساً عن خلل فكري لدى أتباعها، فإن الحل -بالتالي- ينبغي ألا يقتصر على الجانب الأمني فقط، مع أهميته. بل إن مسألة تفعيل المؤسسات الدينية الرسمية أمر مهم. وهذا يقودني إلى عدم تجاهل وضع المؤسسات الدينية الخاصة، وقد لا يكون هذا الأمر موجوداً في بعض الدول العربية، لكني أتحدث عن وضع عربي عام. وإذا وضعنا في اعتبارنا أن ظهور هذه الحركات الإسلامية جاء نتيجة تراجع الإسلام الوسطي أو الأشخاص الذين يحملون فكراً معتدلاً، سواء من رجال الدين أو المؤسسات، فإن القضاء عليها يكون بفكر «قوي» يؤمن بالاعتدال والتسامح ويمتلك الجرأة، وتدعمه الحكومات والمجتمع الدولي.
ويظل أي جهد فردي، سواء من الدول أو الأشخاص، دون تكامل بين المؤسسات العربية والإسلامية، حلاً ناقصاً. بمعنى آخر، لا يمكن الاعتماد على دولة واحدة أو أسلوب وحيد باعتباره الحل، مثل الحل الأمني أو الإعلامي أو التربوي (معالجة المناهج)، دون إعطاء دور للمؤسسات الدينية والمعاهد والجامعات -مثل جامعة الأزهر- ورجال الدين لتوجيه الشباب، وهي الفئة المستهدفة من قبل هذه الحركات باعتبارهم الوقود الذي يغذيها.
إن حالة التراجع الدولي في محاربة تنظيم «داعش» مبنية على فرضية معينة، وهي أن مواجهة حركة تنتمي إلى طائفة دينية معينة لا يمكن أن تحدث إلا من خلال أفراد ينتمون إلى الطائفة نفسها، وإلا تحوَّل الأمر إلى حرب طائفية، وبالتالي فإن مجرد ظهور شخص ينتقد تصرفات حركة مثل «داعش» قد يتهم بـ«الخيانة». بمعنى آخر، فإنه ينبغي لأهل السنّة البدء بقتال «داعش». ولو نظرنا في الفرضية لوجدنا أنها لا تفتقر إلى المنطق تماماً، على الأقل من الناحية الفكرية. وقد كان للأكراد وجهة نظر في بداية ظهور «داعش» في العراق، وهي عدم التدخل في القتال طالما لم يمس الأمرُ كردستان، حتى لا يمكن فهم الأمر على أنه حرب كردية ضد العرب، وبالتالي يتخذ أبعاداً عرقية، وقد سمعتُ هذا الكلام من الأكراد أنفسهم.
إن التركيز على مسألة التنشئة الاجتماعية، باعتبارها الأساس الذي يقف عليه الفرد في المجتمع، يجعلها مهمة المؤسسات الدينية قبل التعليمية، إلى جانب الأسرة بالطبع، وخاصة في المجتمعات العربية، لذا فإن تكامل هذه الأطراف ربما يقلل من المخرجات الأيديولوجية للعديد من الشباب العربي، فنحن نحتاج إلى شخصية فكرية متوازنة للطلاب. ومن المهم أن يعرف الجميع أن الوقوف في وجه أصحاب هذه الأفكار ليس مسؤولية الدولة وحدها، ولا الأجهزة الأمنية، ولكنها مسؤولية المجتمع، والأسرة هي أصغر وحدات هذا المجتمع.
المسألة تحتاج إلى بناء فكري حول أهمية إرساء مفاهيم حوارية جديدة مع أفراد المجتمع تدعو إلى تقبل الآخر وعدم تصنيفه وفق أسباب فكرية وعقائدية. هذه أفضل طريقة للعلاج. وأعتقد أن المؤسسات الدينية ورجال الدين هم من يقع على عاتقهم الدور الأكبر. لذا ينبغي ألا تتم الاستهانة بمن يقوم بالدور الفقهي أو بالدعوة الدينية، بمعنى أنه إذا كان أحد شروط قبول دارسي الطب والهندسة هو حصولهم على أعلى المعدلات الدراسية، فإن الأحداث التي نراها تؤكد أن الأمر بالنسبة لخريجي العلوم الشرعية.. أهم!