وقبل أيام، كتب أحدهم (يعد من أشهر كتاب الأعمدة العرب) مقالاً حشد فيه أرقام ضحايا الحروب بين دول الغرب المسيحي، وضحايا حروب جورج بوش، وضحايا الهمجية الإسرائيلية، ثم تساءل مستنكراً: «لا نسمع اليوم إلا عن داعش والإرهابيين الآخرين؟!»، مؤكداً أن «إرهابهم (أي الدواعش) نقطة في بحر الإرهاب الآخر».أعتقد أنه لا شيء يزيد في حلكة الظلام الذي نعيش فيه مثل هذه الطريقة البائسة من التفكير، الشائعة جداً، إذ لا يمكن إدانة إجرام «داعش»، الذي تخطى كل حدود، والتي لم يعد أفرادها يستحقون الإشارة إليهم كبشر، إلا بإنكار كل الجرائم التي وقعت منذ بدء الخليقة! ومن باب أولى، أن ما دون النحر، كالقتل «الرحيم» بالرصاص، وسبي النساء، وفرض الجزية، وتهجير البشر، وهدم المقدسات، تمضي كلها برداً وسلاماً على عقولنا من دون حتى محاكمة فكرية للفاعلين، فأي محاكمة يجب أن تبدأ بالمتهم الأول: قابيل، وإلى أن يأتي دور «الدواعش» نكون قد دخلنا في العصر الجليدي.
ومن يستمع إلى خطاب هؤلاء يعتقد أننا (باعتبارنا المعنيين بتلك التغريدات والمقالات) لم نسمع قط بالإرهاب الديني المسيحي (الذي كُتبت عنه الروايات وألفت فيه الكتب)، ولا بمحاكم التفتيش الإسبانية (التي نذكرها كلما تذكرنا الأندلس، والتي نذكرها بدورها كلما تذكرنا الماضي، والذي نذكره أصلاً لأننا نعيش فيه)، ولا بالمآسي التي حصلت في الحربين العالميتين (التي نعرف أسماء ضحاياها فرداً فرداً)، ولا بالحروب الأميركية الأخيرة (التي سالت بحار من الحبر في إدانتها)، ولا بالإرهاب الإسرائيلي المستمر منذ عقود طويلة (الذي هو حديث يومي).
لكننا اليوم أمام مأساة جديدة، وإرهاب غير مسبوق ينتمي إلينا، ويتحدث بلساننا، ويرفع شعارات تخص مقدساتنا، ويروج لفكره بين أبنائنا، بل إن ضحاياه هم من أبناء هذه المنطقة وليسوا من قارة بعيدة.. فما هو المطلوب منا فعله الآن؟ نكتب مقالة عن خطر «داعش» ونخصص لها فقرة واحدة فقط، وبقية الفقرات نتحدث فيها عن النازية مثلا؟! ولنفترض من الأساس أن عصابة أوروبية ظهرت الآن وأخذت تنافس «داعش» في الإجرام، فهل هذا يغير من الحقيقة شيئاً؟! هل يغير هذا حقيقتنا نحن؟! وأوضاعنا نحن؟! وضياعنا نحن؟!
حين أكون ضمن متحدثين في مؤتمر بشأن «داعش» يعقد في جامعة غربية، فإنني قد استعرض أمام الحضور جوانب من تاريخ أتباع بقية الأديان مع الإرهاب، لأوصل رسالة إلى الحضور بأن الإرهاب لا دين له. أما أن تنشر «داعش» فيديو نحر صحفي أميركي، وتقرأ في التعليقات أشخاصاً يتحدثون عن مجازر الفرنسيين في الجزائر قبل نصف قرن، فهذا إن لم يكن تغطية على الجريمة، فإنه ينم عن خلل كبير في طريقة التفكير.