عاد الاستعمار والاحتلال العسكرى التقليدى ..ولم تعد حالة الحركة الوطنية في المقابل.
لقد غاب الحديث عن الحركة الوطنية في مختلف الدول العربية منذ مرحلة ما بعد تحقيق الاستقلال وخروج قوات الاحتلال،فيما كان مثل هذا الحديث رائجا استخدامه خلال حقبة المقاومة للاستعمار في الخمسينات والستينات.وقتها كانت القوى المطالبة والساعية للاستقلال يطلق عليها مصطلح «القوى الوطنية» ،فكان الحديث عن الحركة الوطنية المصرية والجزائرية و العراقية واللبنانية الخ.وفي تلك المرحلة جرى تقديم المسألة الوطنية باعتبار ما يجري هو تحرير للوطن ،وعقب التحرير جرت أعمال تأميم للممتلكات الأجنبية لاسترداد المقدرات الاقتصادية الوطنية تحت عناوين الاستقلال الاقتصادى،كما جرى تشكيل نظم حكم تحظى بتمثيل دولي في الأمم المتحدة تحت عنوان الاستقلال السياسي الوطني ..الخ.لقد قدمت تلك القضايا على ما عداها من القضايا وبشكل خاص على قضية الديموقراطية وقضايا الحريات إجمالا.
جاء الاستقلال دون تحقيق الديموقراطية ودون تطبيق لمفاهيم الحرية ،فتشكلت نظم حكم جمهورية رفع بعضها شعارات اشتراكية وانحازت أخرى لنموذج الحكم الملكي ،وفى كلتا الحالتين كان القاسم المشترك هو غياب الديموقراطية ومنع قيام الأحزاب وفرض الوصاية على النقابات أو منع تشكيلها أصلا .
والآن إذ يعود عدد متصاعد من الدول العربية إلى حالة الاحتلال العسكرى –وفق النسخه الإمبريالية القديمة- وإذ كان متوقعا أن تعود المجتمعات لإنتاج وطرح فكرة وحالة الحركات الوطنية في تلك البلدان ،فاللافت أن مثل هذا الأمر لم يحدث ،بل اقترن ظهور حركات الاستقلال والتحرير والمقاومة للاحتلال في المرحلة الراهنة بظهور واعتناق أفكار إيديولوجية وعقائدية متضاربة ومتصارعة داخل المجتمع الواحد ،لتحل فكرة الهوية عند البعض محل الوطنية ولتحل الطائفية عند البعض الآخر محل المشترك الوطني العام ،ولتطرح قضية الديموقراطية كحالة إقصائية لطرف ضد آخر،وليسود نمط من الاقتتال الداخلى والتفكك المجتمعي .
وتبدو طبيعة الاحتلال والطرح الإيديولوجي والإعلامي للدول الاستعمارية ، أحد أسباب وقوع تلك الحالة ،ففي حالتي الاحتلال الإيراني للعراق ثم سوريا ،صارت عمليات المقاومة حالة دينية داخلية مضادة ،بعد أن نجح المستعمر الإيراني في تشكيل منظومات ميليشاوية ذات طابع مذهبي أو تحت الادعاء المذهبي،وبحكم تقديم المستعمر نفسه إعلاميا –وعبر فعل وسلوك قتالي-باعتباره متدخلا لأسباب طائفية أيضا .ويمكن القول بأن عمليات الاحتلال الراهنة –أمريكيا وإيرانيا وروسيا-قد جاءت في مواجهة صحوات إسلامية أو فى مرحلة توسع فيها نفوذ ودور الحركات والاتجاهات الإسلامية ،ولذا كان طبيعيا أن يطرح فكر التحرير الوطني عبر بوابة الرؤية الإسلامية .ولعل أحد أهم المؤشرات على مدى تأثير تلك الظاهرة هو هذا التغيير والتطور الواقع في حركة الاستقلال الفلسطينية ،فإذا كانت حركة التحرير الوطني الفلسطيني»فتح» هي القوة الرئيسية المهيمنة على الشعبية والقرار الفلسطينى خلال مرحلة ما قبل الصحوة الإسلامية ،فقد جرت عملية انتقال كبيرة في توازنات القوى ،بظهور حركة المقاومة الإسلامية «حماس» وحركة الجهاد الفلسطيني « ولعبها دورا أساسيا على ساحة حركة الاستقلال الفلسطينى .
وكذلك يمكن القول بأن اتساع حركة الصراع وأعمال الاحتلال لتشمل دولا إسلامية لا عربية فقط ،وظهور مفاهيم الصراع الديني والحضاري في الساحه الغربية الإعلامية والسياسية –وهو ما ورد في دراسات نظرية وفي تصريحات رسمية-كان له تأثيره هو الآخر في صبغ المقاومات وحركات التحرر بالصبغة الإسلامية والتعبير عن نفسها بتلك الصيغه بدلا من فكرة وحالة الحالة الوطنية العامة ،خاصة مع ظهور تمايزات واختلافات في رؤية و فكرة القوى والتيارات الوطنية العامة عن تلك الإسلامية في داخل المجتمعات ، بما وسع الشقاق والصراع وأبعد حالة الإجماع الوطني على نحو أو آخر .
وبالإجمال يمكن القول بأن انشقاقا عميقا يضرب الحركة الوطنية العربية المناهضة للاحتلال ،وأن الحركة الوطنية بمفهومها القديم قد أخلت مكانها لنمط جديد من التمايز والاختلاف والصراع بين القوى الفكرية والسياسية ،وأن مجتمعاتنا صارت تعيش وقائع معركتين في وقت واحد ،أولاهما ضد المحتل والأخرى بين القوى والتيارات المجتمعية وبعضها البعض .
وهذا ما يعيد طرح سؤال الديموقراطية مجددا.لقد غابت الديموقراطية في الحركة الوطنية العربية خلال الخمسينات ،فحضر الاستقلال وغاب بناء نظم قادرة على تحقيق البناء والاستقرار ،والآن تغيب الديموقراطية أو التوافق حولها ،بما يشعل الصراع قبل الاستقلال ويرسم علامات خطر حول نظم ما بعد الاستقلال .